انعطاف المعاني ورسوخ الأثر.. قراءات في شعرية الجيل التسعيني في العراق

عرض: د.أمل سلمان حسان | ناقدة وأكاديمية – العراق

بعد كتبه الثلاثة المهمة التي أغنت المكتبة العربية بطروحاتها المائزة، ورؤاها الجديدة، وأفكارها المختلفة، ولغتها النقدية المميزة، فقد شرع الناقد إلى انتهاج لغة نقدية تختص به تراوحت بين اللغة النقدية الخاصة بنقد السرد واللغة النقدية الخاصة بنقد الشعر، وكلاهما يكشفان عن احترافية الناقد في التقاط الجديد من الأفكار والرؤى، وهما يترجمان الوعي النقديّ لناقدٍ يكتب باختلاف.

فكان صنيعه مجموعة من النتاجات النقدية   وهي:

_التجريب في الرواية العراقية النسوية بعد عام ٢٠٠٣م.

_وعي التجربة والتجديد في شعر نوفل أبو رغيف، قراءات في الخطاب الشعريّ.

_تجييل الكتابة الشعرية في العراق بين التنظير والإجراء  ،دراسة في الجيل  التسعيني.

 يصدر الآن بعد إصدارته في أعلاه  الناقد الدكتور سعيد حميد كاظم، كتابا جديدا عنونه بـ(انعطاف المعاني ورسوخ الأثر.. قراءات في شعرية الجيل التسعيني في العراق)، مستكملاً به مشروعه الثقافي حول التجايل الكتابيّ والتجييل الشعريّ،

هذا الكتاب يمكن وصفه بأنه رؤية في التَّحْقيب العَشريَّ لأجيال الحداثة الشعرية ممثلة بـ الجيل التسعيني في العراق ولكي يتمكن الناقد من فحص شعرية  هؤلاء وحقولهم المعرفية والثقافية  عمد إلى أخذ مدونة شعرية  من بعضهم  ووضعها تحت المجهر، مختاراً لها الملمح الأبرز، والأكثر شيوعا في نسيجها ،وإذا كنّا نعرف أن التحقيب أو التجييل في حقيقته أرشفةٌ فنية وخطابية لمجموعة شعراء تضمهم أرضية مشتركة ،ندرك  المخاطرة الكبرى والتيه العظيم الذي خاضه هذا الناقد ،إذ لم يغشَ لُجج التيار التسعيني الهادر المكتسح، وطغيان الأنا والأنا الشاعرة لشعرائه وقوة خطابهم، وهم يقدمون نصوصاً شهد لها النقد بالتميّز والجدة.فقرأ بجرأة الناقد المتمكن من أدواته ،تجربة ذلك الجيل من باطن التجربة الشعرية نفسها ، بتطبيقات  إجرائية واسعة ومتشعبة لعدد كبير من الشعراء .ولا يخفى على القارىء أن الشعرية تجلّت في صميم نصوص شعراء الجيل التسعيني بوصفها ضرورةً لا غنى عنها تتيح حدّاً أعلى لاستنطاقها واستجلائها ،داعيةً إلى انفتاح قرائي متعدّد ،لذلك تركّزت الدراسة على استقراء دلالاته المنتجة ومقاربة إشاراته الدالة وتجلياتها في النماذج الشعرية المختارة ، فحاول المؤلف مقاربة بعض الظواهر الإبداعية الموازية للخطاب الشعري التسعيني ،تأكيداً لانفتاح رؤية القصيدة نحو الكشف والتجلّي ،والتي أخذت مسرىً تجاوزياً زاخراً بحضور الإنسان والحضارة والتأريخ والفن في أعمق تجلياتها الكتابية،وقد  شهدت الحقبة التسعينية ضبابية قاتمة طغت على الحياة بكلّ أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أطّرت المنتج التسعيني ،وعاش خلالها الشاعر “أزمات سعت إلى الإجهازعليه (إنسانا ) اكتوى بنارها ،ومنحته لونها وتجهمها ،لكنّها في الوقت نفسه صنعت منه مبدعا “

وتأسيساً على ما سبق  ، فقد درس الناقد  أولا ً ظاهرة التضاد بأبعادها المختلفة عند الشاعر (مشتاق عباس معن) ،في مجموعته الشعرية (وطن بطعم الجرح )، التي نحا فيها الشاعر  إلى أفق مغاير من أجل إحداث قفزة تطويرية على صعيد الرؤى  والأنساق وأعطى النصوص ثراءً معرفياً من روحه وخياله متوخياً الجمال في كلّ عبارة من أجل خلق عمل موسوم بالنضج والاكتناز المعرفي_ على وفق تعبير الناقد د.سعيد_ ،لذلك كان التضاد في خطابه نافذةً تطلّ منها رؤية الشاعر في بيان المتناقضات، وتناقض المتباينات في الواقع لتلتقي في فضاء النصً :

ترتديني 

الجرار 

خجلى   

     وظمأى 

       والسحاب الثقال بالوصل ينأى 

فيظل الجفاف يسقي 

              جذوري 

وثمارى العجاف بالموت ملأى .

فدالة التضاء التي صنعها الشاعر هنا وبحسب _الناقد _ كان لها الأثر في بيان ما يحيط بالذات من تأزم وضياع 

جاءت عبر الجفاف الارتواء/ و الخلو /الامتلاء  ..

وكانت الظاهرة الثانية التي تناولها في الخطاب الشعريّ التسعينيّ ،هي استدعاء التراث الفكري عند الشاعر (حازم رشك)  ،في مجموعته ( ما رواه الهدهد )

التي جاءت ثريةً بالمعطيات التراثية والقيم الفكرية ،وكانت رؤاه تنبجس عبر تدفق شعري يحفل بدور ثقافي يعيد للذات حضورها التاريخي المشرق بالحضارة ،وهي تجسّد كل أنماط الانتماء ،وتكشف عن ملامح الهوية ،كونها ترتكز على بناء فكري عتيد ،وهذا مؤشر دالّ على وعي رصين أراده الشاعر التسعيني  أن يكون حاضراً في مضمونه وأفكاره ،فضلاً عن أنًه يكشف عن مغزى روحي متعلق بأسباب وجوده الإنساني ،فجاءت القراءة على عدد من المحاور  التي أضاءت التجربة التسعينية في استدعاء التراث ،ومنها في سبيل المثال ،الإشارة في اغلب النصوص التسعينية لبعض الأمكنة الحضارية ،قاصدين بذاك الإشارة إلى الحضارة التي نمت وترعرعت وصار صرحها مهوى أفئدة الطامحين إلى ارتياد الفكر والإهتداء بالمعرفة ،نقرأ 

يوماً 

سيكبر طفل النجم 

في القصب 

ويسكب الماء ضوءاً  

في فم الرطب 

…………

حيث الصرائف 

جنّة مفتوحة 

عرش يهدهده هديل الماء 

حيث خط حرف الوجود من عرش  صرائفهم تلك البيوت التي حوّت المجد الأثيل التي يحيطها الماء سر الحياة فتكتمل بوجود الإنسان والمعرفة والماء .

وأما الظاهرة الفنية الثالثة التي طغت على المنجز الشعري لشعراء الجيل التسعيني فهي ،شعرية السؤال ،وقد تناولها الناقد في ضوء نظرية القراءة والتلقي ،مختاراً عينة مجموعة (فرصة الثلج ) للشاعر (نجاح العرسان) مشتغلاً له ،فجاءت على تسعة محاور ،فهي مجموعة ارتكزت على منظومة من الوعي المعرفي وهي تستجيب لاشتراطات فنية متنوعة مليئة بالاستدلالات الماثلة بالقيم الفكرية فضلاً عن المعايير الجمالية الراسخة في نسيجها التي تبعث رؤى جديدة تواكب الحركة المتغيرة في الزمن وتنسجم مع تطلعات المتلقي ،نقرأ :

عندي ..

فرات من الظامئين 

وعندي جياع من الكرم 

……..

سامح عراقك 

حاتمان بكفه 

لكنّه 

ذبح الجياع لمهره ..

صور جديدة يردف بها الشاعر نصوصه تتعاقد مع صور قد تبدو غير منسجمة معها ،لكن تشكيلها في النصّ يحقّق جدة في الأفكار ،فبدلاً من أن يذبح المهر للجياع ،سيطلب السماح لمن يغدق خيراً بوجود دجلته وفراته ،ولا يكتفي بهما بل سيجود بأبنائه  .

ولأن الجيل التسعيني حين تعمّقت معاناته واتّسعت الهوة بينه وبين مجتمعه وواقعه ،لجأ إلى إقامة علاقة متواشجة مع التراث الذي أفرز تحولاً في التجربة الشخصية فأفضت إلى تجربة إنسانية عندما أخذت طابعاً دينياً ، فهجر التسعينيون الرموز التأريخية والأسطورية على أن تجلّى رمزهم الأكبر في الإمام الحسين (عليه السلام) ،بعد أن عجزت الرموز الأخرى على استيعاب محنتهم ،ولذلك لم يطمئنوا إليها كثيراً ممّا خلق زعزعة فكرية عزفت بهم إلى أن يختاروا من لا غبارَ عليه ،ولعلّ في تصريح الشاعر نجاح العرسان ما يكشف الغطاء عن النوايا في هجرهم للرموز التأريخية القلقة :

ولأنني التأريخ أعرف زيف ما كتبوا 

أحرقت أوراقي ليحترقوا 

لذا عزم التسعينيون إلى تفعيل الرمز الحسيني ،الذي يتفق على رمزيته وجلالة هيبته الجميع ومن شتى الطوائف ،هذا ما اشتغل عليه ناقدنا الحصيف (د.سعيد) في الظاهرة الفنية الرابعة التي شكّلت ملمحاً بارزاً في التجربة الشعرية للجيل التسعيني ،فحشد نصوص رمزية لشعراء كُثر اتخذوا من رمزية الإمام الحسين (عليه السلام) معادلاً موضوعياً لظلم مجتمعهم وقهره ، نقرأ في سبيل المثال : أنا ذا فراتيّ المواجع والشظايا أضلعي 

الغصن يورد من دمي وأنا خرجت إلى أنا 

كل الينابيع الطهورة أدمعي  …

ونجد أسماء لشعراء من قبيل، حمد محمود الدّوخي  ،عباس اليوسفي وأمجد حميد عبد الله وحسن عبد راضي وعلي خلف الإمارة ونوفل أبو رغيف وعلاوي كاظم كشيش وعمار المسعودي وباسم فرات ومازن المعموري وعقيل ابو غريب وصلاح حسن السيلاوي ومحمد البغدادي وعلي حسين الخباز وأحمد آدم وأحمد عبدالحسين وياس السعيدي ووجيه عباس  ورعد زامل وماجد الشرع ونصير الشيخ  وغيرهم 

وقد عالج الناقد هذه الظاهرة على خمسة محاور رئيسة انتهت بخلاصة مفادها ،أن شعراء الجيل التسعيني وظّفوا رمزية الإمام الحسين بوصفه علامةً مضيئةً في التاريخ الإنساني وكثيراً ما خفّف عنهم كاهل الخوف وأغدق عليهم بنعيم التمسك وفيض العطاء فهو سفينة النجاة الخالدة التي تنجيهم من الطوفان ،وهي من تأوي إغاثتهم وتساند أصواتهم الواعدة .

وكان للأمكنة التي وظّفها الشعراء التسعينيون مبحثاً خاصاً في أسطر هذا الكتاب بوصفها ظاهرةً فنيةً انمازت بها النصوص التسعينية متخذاً من مجموعة (بلوغ النهر) لباسم فرات مشتغلاً له ، فقسّمه على ثلاثة محاور حاول فيها أن يثبت ،أن الشاعر التسعيني راح يحمل جرحه كما يحمل رؤيته ليجوب بهما مدن أخرى علّها أخف وطأةً من جراح بلاده واستطاع أن يقدّم إدانةً  واضحةً لمرتكبي الخراب ،وهو لم يرتكن إلى الجمود إنما أراد أن تتصف نصوصه بالحركة من خلال تبنيه ثقافة مضادة أيقظ من خلالها مشاعر المحبة للسلام وفضح كلّ المحاولات التي تعمد إلى تدنيس المعالم الجمالية التي صنعتها الذات المبدعة لتحولها إلى مدن مهجورة وهو في كلّ ما لاحظ وشاهد كان يرغب في إضفاء كلّ جماليات الكون ليهديها إلى وطنه ،ورغب في أن يكون جزءاً من التاريخ الإنساني المشرق بالحرية،وكلّه تفاؤل في كسح الضباب عن بلده،وأن يبقى يزهو على كل ّ البلاد :

يُخبر اصحابه عن “وطنه الجديد “

عن المدن التي استقبلته 

عن أنهار تهطل منها 

نجوم وشموس 

يخبرهم عن غابات 

وعيد دائم الخضرة ..

وأما الظاهرة الفنية الأخيرة التي تطرق إليها الناقد فهي ،تمثّلات الهوية ودلالات التشظي مشتغلاً على مجموعة (لون آخر للرماد ) للشاعر مضر الآلوسي ،مقسّماً إياه على خمسة محاور،انتهت إلى القول :إن النص التسعيني أفرز بكلّ معانيه الفنية والجمالية بعض التشكّلات الدالة على هوية الوطن ،والذات التي تنظوي ،فكان منها ما جاء على شكل ومضات يعلن الشاعر من خلالها صرخة التمرد والرفض لكلّ أشكال الغياب والتغييب ،وأخرى جاءت في مفاصل النص عبر إيحاءات مؤلمة على أنّ نصّه الشعري لم يفارق معاييره الدلالية لتتحول ثيمات النص إلى فعل ثوري مجسّداً من خلالها فكرة الانتماء عبر القيم الفنية والجمالية في النص:

هم هكذا 

لا يعرفونك 

           كن كيف ..

إلا أن تكونك 

هم هكذا ..

        لا يعشقونك   

            لكنهم يستنزفونك 

هم بايعوك 

      فلا تجيء

          مثل الحسين

           سيقتلونك .

وقد تصدّرت مباحث هذا الكتاب مقولات نقدية لكبار نقاد الغرب والعرب أمثال جان كوهين ورولان بارت وميرلوبونتي وآرثر رامبو وأدونيس وغيرهم ،مثّلت كلّ مقولة مفتاحاً للمعالجة النقدية التي يسير عليها الناقد في اشتغالاته، وتلك التفاتة جميلة كرّسها الناقد لتكون المهاد لرؤيته النقدية، ولعلّ ما يكتبه الناقد من إهداءات متوجة بلغة شعرية في كتبه جميعها تكشف عن أن للناقد لغته النقدية المميزة كما  للناقد لغته الشعرية عند تصدير كتبه بتلك الإهداءات، وما كتبه في ( نماذج من الإنشاء)   

واخيرا أرجو لهذا الناقد المبدع كلّ التوفيق والسداد مع دعائي له بمزيد من التألق والإبداع . 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى