الاستراتيجيات والمداخل والطرق والأساليب في التعليم بين جمر الترجمة وسيولة التطبيق

أ.د. عنتر صلحي عبد اللاه| أستاذ طرائق التدريس واللغويات التطبيقية – جامعة جنوب الوادي

ظللت فترة كبيرة من عمري الوظيفي والعملي أحاول تجنب استخدام كلمة “الاستراتيجية”، وذلك لما كان يعتمل في نفسي تجاهها من مشاعر متضاربة تؤرقها الترجمة والتداخل بين المصطلحات، حتى إذا توفي أستاذ عزيز علينا، وأوكل إلي القيام بتدريس مقرر “استراتيجيات التدريس” مكانه، وجدت ألا مفر من المواجهة، ولعلي في هذا المقالة أنفث بعضا مما أجد في نفسي تجاه “الاستراتيجيات” وأتناول أسباب التداخل وإشكالات الترجمة. 

أولا فلنبدأ بما لا مشكلة -كبيرة -فيه، وهي مصطلحات المدخل  approach  – والبعض يترجمها المذهب والمنهاج-، والطريقة  Method  – تُجمع على طرائق-، والأسلوب  technique ، ويتصل بذلك كذلك مصطلح الإجراءات  procedures. 

يذكر ريتشارز وروجروز في منصنفها التاريخي الفريد  Approaches, methods and techniques in language teaching  أن عالم اللغويات التطبيقية  Edward Anthony  هو أول من فرق بين هذه المصطلحات في 1963 بعد أن كان الخلط بينها كبيرا. ولعل أحد أسباب هذا التداخل هو التفاوت في استخدام المصطلحات التي تشير إلى طريقة بعينها؛ فالمدخل التواصلي مثلا communicative approach أحيانا يشار إليه بأنه الطريقة التواصلية communicative method في حين أن المدخل الطبيعي natural approach  لا تفصل فيه الكلمتان أبدا ولا يشار إليه أبدا بـ “الطريقة الطبيعية “*natural method  – وهو مصطلح استخدمه البعض للإشارة إلى الطريقة المباشرة في تعليم اللغات  The Direct Method –   كما أن بعض الطرائق تستخدم مصطلحات مغايرة  بخلاف  methodمثل الطريقة الصامتة Silent Way. ومن أسباب هذا التداخل أيضا عدم اتفاق المنظرين لطرائق التدريس على دلالات ثابتة لهذه المصطلحات الثلاثة. 

 وتتمايز هذه المستويات الثلاثة تمايزا هرميا عند أنتوني ؛إذ يأتي المدخل أولا على رأس القائمة ومنه تنبثق الطريقة ومنها ينتج الأسلوب. فالأسلوب التدريسي عنده يقوم بتنفيذ الطريقة التي تتسق بدورها مع المدخل.  وانظر إليه كيف يعرف كل منها:  

” المدخل هو زمرة التصوارت المترابطة التي تتعامل مع طبيعة تعلم اللغة وتعليمها. إنه مستوى البدهيات النظرية. وهو يصف طبيعة المادة الد ارسية المتعلمة ” 

“الطريقة هي الخطة الكلية لتقديم المادة اللغوية بشكل منظم والتي لا تتعارض أجزاؤها بل تتسق في مبناها مع بدهيات المدخل النظري. فإذا كان المدخل يمثل المستوى النظري فإن الطريقة تمثل المستوى الإجرائي. وبداخل المدخل الواحد تتعدد الطرائق” 

“والأسلوب هو المستوى التطبيقي – ويتمثل في ما يحدث بالفعل في الصف الدراسي، وهو يشمل الاستراتيجيات والخطوات التي تتبع لتحقيق أهداف سلوكية محددة وآنية. ولا بد للأسلوب أن يكون متسقا مع الطريقة و -بالتالي- منسجما مع المدخل) “

 (قد يهمس البعض أن أنتوني – اللي أنت فرحان بيه- هو نفسه استخدم كلمة استراتيجيات في التعريف الأخير، فما خطبك؟ وهو أمر ساعود إليه لاحقا). 

ورغم وجاهة تقسيم أنتوني إلا أن ريتشارز وروجرز رأيا أنه غير مناسب لتوضيح العلاقات الداخلية والتفاعلات على المستويات المختلفة وأن التقسيم يبخس مصطلح الطريقة  Method  حقه في بيان ارتباطها- وشمولها – لكل هذه المستويات. لذا أقترحا في البداية استخدم كلمتين (الطريقة  Capital M – Method) وجمعها طرائق، و(الطريق  small m method) وجمعها طرق، ثم مالبثا أن عدلا عن ذلك واستقدما مصطلح (التصميم  Design)  ليعبر عن الطريق، وحتى لا يحدث مزيد من الخلط. وبالتالي صارت الصورة النهائية لديهما هي أن هناك طريقة تدريس  Method  تشمل بداخلها إطارا نظريا  Approach و تصميما  Design  يعني بالمحتوى وتنظيمه وأدوار المعلم والمتعلم والأنشطة والتقويم، و يظهر في إجراءات محددة Procedures يمكن تنفيذها من خلال أساليب متعددة  techniques. 

إلى هنا والأمر جيد، ثم جاء عالم ما بعد التسعينات، وظهرت فترة ما بعد الطرائق  The Post-Methods era وهي فترة شهدت انتقال بؤرة الاهتمام من المعلم -الذي نعني بتقديم طرائق التدريس له – إلى المتعلم – الذي يجب أن نركز على طبيعة  تعلمه  student-centered approaches، وبدأت تظهر المداخل القائمة على نشاط المتعلمactive learning ، واتسعت دائرة النظرية البنائية constructivism لتشمل الجوانب الاجتماعية والثقافية sociocultural ، بل أعلنت بعض المراجع انتهاء عهد الطرائق وبزوغ عهد استراتيجيات التعلم  learning strategies ، حتى أن الاسم العتيق للقسم “المناهج وطرق التدريس  Curriculum and instruction تحول في كثير من الجامعات إلى “المناهج والتعلم  Curriculum and Learning. 

والاسترتيجية -كما هو معروف- كلمة يونانية الأصل تعني الخطة العسكرية وهي مشتقة من اسم رتبة الجنرال العسكرية، وتشير إلى طبقات  strata  من التخطيط والتجهيز للتنفيذ، وللكلمة وجاهة وبريق جعل عملية تعريبها لا تقاومها أي لفظة عربية أخرى أصيلة، وهي من الكلمات الرنانة -مثل الجودة والاعتماد والتقدم والتنمية المستدامة وغيرها – التي ما إن توضع في جملة حتى تقدم دفقة من الثقة والرسوخ والقيمة لكلام المتكلم وإن كان المضمون لا يعني شيئا. 

حتى الآن، لا توجد مشكلة: طالما هنا طرائق ومداخل وأساليب للتدريس (خاصة بالمعلم) وهناك استراتيجيات للتعلم (خاصة بالمتعلم) فلا بأس. فليكن ما يفعله المعلم من طرائق وأساليب إنما يستثير استراتيجات المتعلم -أي خطته المنظمة الواعية بعملية التعلم – للقيام بالتعلم. غير أن عمل المعلم التنشيطي لا يمكن إغفاله، وخطوات استثارة التعلم النشط لدى المتعلم يقوم بالكثير منها المعلم، لذا كانت الضرورة ملحة لاستخدام مصلح يشير لما يقوم به المعلم، فانتقلت كلمة “استراتيجية” – بوجاهتها – لتشكل “استراتيجيات التدريس”.  

وههنا انفجرت المشكلة الحقيقية عندما اقتحمت “الاستراتيجيات” الحرم المقدس للمدخل والطريقة والأسلوب، وزاحمتهم وتداخلت معهم، فصار لدينا “استراتيجيات للتدريس” وطرائق وأساليب ومداخل وإجراءات، وحار الناس : أين نضع هذا الوافد الجديد المفروض علينا تحت ضغط سلطة الاهتمام بالمتعلم؟ هل تكون الاستراتيجية أعم من الطريقة أو أقل من المدخل أم تتساوي مع الأسلوب. وكانت “الاستراتيجيات” -بحكم الدعاية التي تصاحبها والوجاهة والبرستيج الذي تحمله- تأبى إلا أن تكون في رأس الهرم، فهي تقتحم البيت القديم ولا ترضي بزاوية فيه بل تنازع أهله سرة بيتهم. 

فقال البعض إن الاستراتيجية – باعتباها خطة من طبقات  strata – هي مجموعة المداخل والطرائق والإجراءات والأساليب معا، وهي الحكمة في اختيار أيها يناسب الموقف التعليمي. والبعض رأى أنها مرادف للطريقة – وهو المصطلح العتيق في التخصص- وما تنازل من تنازل عن موقفه الأول إلا لأنه رأى أن أي استراتيجية لا تستغني عن نظرية تستند إليها، وبالتالي يكون المدخل  approach  أعلى وأعم من الاستراتيجية. 

فإذا نظرنا إلى التطبيق الميداني لنماذج من هذه الاستراتيجيات التدريس، هالنا أنها لا تزيد عن كونها بعض أنشطة  activities  منتقاة؛ مثل استراتيجية البيت الدائري  round house  أو القبعات الست  six hats  أو “فكر-زاوج -شارك” Think-pair-share أو غيرها الكثير مما يطلقون عليه أستراتيجيات التعلم النشط  (لي مقال خاص في تفصيل القول في هذه التسمية وتحليل نسبة النشاط للتعلم أو للاستراتيجيات لمن شاء الرجوع إليه).  

وإذن فالاستراتيجية – بهذا التطبيق الميداني- لا تحلم أن تساوي المدخل وتتصاغر كثيرا أمام الطريقة ولا تضارع الأسلوب، وأعلى ما يقال فيها هي أنها إجراءات لأنشطة داخل أسلوب تدريسي يتبع طريقة تنبني على مدخل. غير أن أنصار “الاستراتيجية” لا يرضون بهذه المكانة الهزيلة، ويصرون على عظم حجم الاستراتيجيات. ورغم ذلك فإن معظم الكتب التي تتناول “استراتيجيات التدريس” لا تهتم ببيان الأساس النظري لاستخدام الاستراتيجيات المنتقاة، ويركز عملها في سرد و”رص” كل استراتيجية وبيان خطواتها التفصيلية، (ولذلك فأفضل كتاب في استراتيجيات التدريس – في رأيي- هو ما كتبه المرحوم جابر عبد الحميد قبل عشرين سنة في 1999 من نشر دار الفكر العربي حيث ركز بشكل كبير على نظريات التعلم التي تنبني عليها استراتيجيات التدريس). 

إذن الصراع عندنا هو بين كلمة ذات وجاهة وسطوة تستنكف أن تنزوي تحت اسم “أنشطة”، وواقع يصرخ بأنها محض “أنشطة”، ولفك الاشتباك، قررت البحث عن كلمة بديلة ربما تشكل مصطلحا يعبر عن الحال ويفك الاشتباك؛ حاولت أولا تصغير كلمة “الاستراتيجية” فوجدتها تأبى التصغير، وكيف لا وهي كلمة أعجمية اقتحمت العربية، بل إن أقرب مقابل عربي لها – وهو خطة- يسثير السخرية عند تصغيره “خطيطة”، فما بالك بما يمكن أن ينتج عند تصغير “استراتيجية”؟ (وهو سؤال لأهل اللغة العربية ونشاط ذهني ندعوهم لخوضه). 

ثم رأيت أن أبحث في المصطلحات الإنجليزية، عل وعسى نجد الكتابات الغربية تستخدم مصطلحا أكثر انضباطا، ووجدت بالفعل أن “الاستراتيجيات” التي أشار إليها ريتشارز وروجز في تعريفهما السابق للأسلوب – لم تكن  strategies  وإنما كانت  stratagems  (أكاد أسمع زفرة البعض: إحنا ناقصين؟) وإذن فالأستاذان لم يستخدما كلمة  strategies  أبدا في كتابها كما قلت سابقا، وإنما استخدما هذه الكلمة الغريبة، فما عساها تعني؟ في المعجم هي خطة صغيرة حاذقة، رائع جدا إذن فهي مطلوبنا، لكن …..هناك مشكلة جديدة، وهي أن التطور اللغوي لهذه الكلمة جعلها تعطي معاني إضافية تحمل ايحاءات الخديعة والمكر والخداع، ولذلك فاستخدامها الأكاديمي – بالمعنى المنضبط اللا مخادع- محدود للغاية. يصاف إلى ذلك مشكلة أخرى وهي : كيف سنترجمها؟ وقد اقتحمت حياتنا “الاستراتيجية” – من غير إحم ولا دستور- ؟ هل نقول مثلا “استراتيكية” بإبدال الجيم كافا للإشارة للمخالفة بين اللفظتين في الإنجليزية والعربية؟ 

وهكذا تستمر المعاناة في محاولات فك الاشتباك على المستوي الاصطلاحي واللغوي والإيدولوجي والتطبيقي. والخلاصة التي أطمئن إليها، هي أن مفهوم “الاستراتيجية” – بعيدا عن التدريس- يشير إلى الخطط الكبري والعمليات المنظمة لتحقيق أهداف بعيدة المدى، أما في “استراتيجيات التدريس” فهي محض أنشطة منظمة تتم داخل الصف، وتنبني على نظرية، وبينما لا يهتم المعلم الممارس كثيرا بمعرفة النظرية التي تقف خلف الاستراتيجة -الناجحة- التي يستخدمها، يجب على الباحث في المناهج وطرق التدريس الذي يستخدم استراتيجة من استراتيجيات التدريس أن يلم بكل جوانب النظرية التي تستند إليها الاستراتيجية وأن يبين هذا بوضوح في الإطار النظري من دراسته. أقول إن هذا رأي وهو ما صح عندي ووقر لدي، غير أنه- مثل سائر عمل البشر- يحتمل الخطأ، ولا نفرض رأيا على أحد، ومرحبا بأي تصويب أو تعليق.

والله أعلم.

ا.د. عنتر صلحي عبد اللاه. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى