شاهد واقرأ.. حول حرِّية الإبداع وسوء التّقدير
سهيل كيوان | فلسطين
حرية الإبداع هي أمر مقدَّس في الأنظمة الديمقراطية، وفي الوقت ذاته فالنظام الديمقراطي يحمي الناس من التشهير، حتى ولو كان تحت عباءة الإبداع.
هناك مساحة لا تعتبر تشهيرًا بحسب القانون، ولكن توجد اعتبارات أخلاقية وحساسيات يتعامل معها المُبدع بحذر من خلال رقابة ذاتية، فلا يُسِفُّ ولا يَبتِذل، ولا يمس مشاعر مجموعة بشرية كي يتفنّن.
الإبداع مطلوب وبقوة، شرط ألا يمس مشاعر الناس، وخصوصًا أولئك الذين يعيشون في حالات وظروف خاصة.
أثار فيلم “أميرة” ردود أفعال غاضبة أكثرها رافضة لفكرة الفيلم، التي تتحدَّث عن تهريب نطفة أسير أمني إلى زوجته ليتبين للابنة بعدما تكبر، أن النطفة كانت من ضابط السّجن وليس من الشخص الذي يفترض أنه والدها.
الفكرة طرقت موضوعًا حسَّاسا من زاوية غير متوقعة، وهذا عادة ما يتطلبه الفن، وهو غير المتوقع. ولكن ما هي الرسالة، التي يحملها هذا الفيلم، وماذا أراد أن يوصل للمشاهد من خلال هذه الشَّطحة الفنية؟
إذا كان هدفه نصرة السُّجناء وقضيتهم وإثارة التعاطف معهم والانتباه إلى معاناتهم فقد أخطأ؟ وإذا كان يريد مناقشة قضية فلسفية ووجودية التي سبق وأن عالجها غسان كنفاني في رواية عائد إلى حيفا، فلكل مقام مقال، وكان ممكنا لهذه الأحداث أن تجري وتكون مسلّية وتناقش فيها ما تشاء ولكن ليس في إطار قضية السُّجناء الأمنيين وأسرهم ومجتمعهم الذي ينظر إليهم نظرة مناقضة عن هذه التي طرحها الفيلم.
لا أظن أن فيلمًا كهذا جاء بهدف التسلية فقط، يبدو أنه قصد أن يطرح فكرة فلسفية وجودية، وإثارة أسئلة فكرية، ربما أراد الفيلم إدانة الاحتلال ولكن بطريقة أكثر تعقيدًا من الحقيقة البسيطة، وربما أراد أن يطرح قضايا إنسانية من خلال شخصيات متناقضة وأحداث غير واردة في حساب المشاهد.
إلا أن فكرة تهريب النطفة من أسير أمني وكيفية وصولها إلى العنوان والحمل بها والتعقيدات التي تمر بها، من خطر فقدانها إلى طريقة توصيلها وتخزينها والحمل بها، هي بذاتها فكرة مثيرة لم تستنفد بعد سينمائيًا وحتى أدبيًا، ويحيط بها عالم واسع من الغموض الذي يمكن السباحة الإبداعية فيه بلا حدود وبلا حاجة إلى تشويه الواقع بصورة مسيئة.
العمل الفني حتى لو كان كله من بنات الخيال، فهو في نهاية الأمر يحمل رسالة إلى المتلقي، الذي سيعلق في ذهنه شيء منه، وسيؤثر على موقفه من القضية التي يعالجها.
الموضوع الذي طُرق في الفيلم عالج موضعًا مقدَّسًا للفلسطينيين عمومًا، ولعائلات الأسرى بشكل خاص، مسّ قضية إنسانية ووطنية حسّاسة جدًا، لا تتحمل تحويلها إلى مادة ترفيهية قابلة للتأويل إلى عدة وجوه.
الحديث عن أناسٍ يعتبرون تهريب النُّطفة أجمل ما في حياتهم، فهي تمنحهم أملا وتفاؤلا وقوة للصبر والصمود لسنين طويلة، هذا يقول لهم إنهم بشكل أو بآخر أحرار من خلال الأبناء الذين أنجبوهم حتى وهم وراء القضبان، بهذا العمل يمس فرحتهم اليتيمة بفظاظة! ويمس بالإجماع الوطني على أن تهريب النطفة عمل بطولي يشترك في تحقيقه عناصر كثيرة، ويتطلب تضحيات، وهو ما يستحق أن يكون مادة الإبداع وليس فكرة الضابط أو خيانة رفيق الدرب.
قد يكون هدف المخرج وفيلمه عرض قضية إنسانية تدين الاحتلال الذي يؤدي بالناس إلى الوصول لمثل هذه الحلول، ولكنه أخطأ الهدف حتى وإن كانت نواياه نظيفة.
في الوقت ذاته يجب أن لا ننزلق إلى اتهام طاقم الفيلم بالعمل المقصود لتشويه نضال هؤلاء الأسرى، فهذا أيضًا ليس صحيحًا، والفرق شاسع بين سوء التقدير وبين الإساءة المقصودة.
للفن حرية الإبداع وبلا حدود، وللجمهور أيضًا رأيه بما يرى ويسمع، فأنت لا تستطيع أن تجعل من الجمهور كله فلاسفة منعزلين عن واقعهم، ولا تستطيع أن تطلب تفهُّمًا من أصحاب القضية التي تعالجها على حساب أغلى ما يملكون، وإذا أخطأت الحسابات أو في توصيل الرسالة وأسأت من غير قصد فعليك أن تفحص نفسك وعملك، حتى أكثر الأعمال خيالاً لا يستطيع التحرر بشكل مطلق من الواقع.
شعوري أن المخرج وطاقم الفيلم بعيدون عن واقع معاناة الأسرى وأسرهم وأبنائهم وما يكابدونه من عذاب وثمن باهظ جدًا دفعوه ويدفعونه لأجل قضية آمنوا بها، وهذا ليس غريبًا، فمعظمنا لا يشعر بهذه المعاناة، أو أنه يشعر بها بشكل سطحي من بعيد.
قد تكون الرغبة في الإثارة قد تغلبت على الشعور بآلام هذه الشريحة من المجتمع الفلسطيني، وهذا مؤسف.
لقد فعل مخرج الفيلم، محمد دياب، خيرًا بوقفه عروض هذا الفيلم، وهذا يدل أيضًا على أن نوايا الطاقم لم تكن سيِّئة في الأساس، إلا أنهم أخطأوا التقدير وإيجاد التوازن بين الإبداع ومشاعر الآخرين الشَّخصية والعامة في قضية شديدة الحساسية.