قراءة في نص ” سأنتظر العراق ” للشاعر وليد جاسم الزبيدي
د. حسن محمد العمراني | مصر
الخطاب اللغوي ودينامية النص الشعري
أولاً: النص
سأنتظرُ العراقَ، متى سيأتي؟
دهوراً عاشَها قلقاً عراقُ..
تهجّرَ من سوادٍ كانَ خيراً
فألبسهُ السوادَ دمٌ يُراقُ..
تهجّرَ رافداهُ وما عليهِ
وأعْمِلَ في بقيتهِ الخناقُ..
ومن آثارهِ سيقتْ سبايا
ومن أجوائهِ سُرقَ المحاقُ..
وأسألُهُ يعودُ ليحتويني
وتأتيني الرسائلُ واشتياقُ..
بأنّ رجوعَهُ قدْ باتَ صعباً
لصوصٌ، واحترابٌ، وانشقاقُ..
وإنّ طريقَهُ مُلئتْ حراباً
وشطّ بأضلعٍ هوَساً نفاقُ..
وقدْ سُبيَ الحياءُ فلا حياءً
وقد ذَهَبَ التآخي والوفاقُ..
سأنتظرُ العراقَ، فإنّ وعداً
حباهُ لينتهي بغدٍ فراقُ..
ويرجعُ قِبْلةً حُرّاً طهوراً
ويرجعُ للبناءِ، لنا، السباقُ..
وتصدحُ بعد هجرتها طيورٌ
بأغصانٍ يوحّدُها العناقُ..
ويحيا فجرُنا في كلّ حقلٍ
ويحلو في موائدهِ المذاقُ..
سأنتظرُ العراقَ فلا عراقاً
إذا ما غُيّرتْ سُننٌ، سياقُ..
متى ما غُيّرتْ فينا نفوسٌ
سيجمعُ شملَنا هذا العراقُ..!
ثانياً: القراءة
الخطاب في النص الأدبي يحمل في طياته حديث يتردد في مخيلة الكاتب، فيحيله الأديب إلى حديث مع الذات (المونولوج) أو حديث عما يعتمل في الذات، وهذا الأخير هو إعراب عما يجيش في النفس، وهو الذي يجعل الرؤى تتشابك وردود الأفعال تختلف. فقد يخاطبالنص طرفاً ثانياً أو ثالثاً مرتقباً وهو المتلقي أو القارئ. والشاهد في الأمر هو قدرة الكاتب المبدع على المؤائمة بين هذه الأصوات واستنهاضها داخل النص الواحد لخلق دينامية حوارية تتجاوز اللغة اليومية الدارجة كي تحدث أبعاد جمالية وفنية في العمل الأدبي.
وجملة الحوار الأولى في نص الشاعر وليد الزبيدي ” سأنتظر العراق..؟” جاءت لتمثل الأسلوب الأنسب الذي بمقتضاه يمكن صياغة الخطاب الشعري، الذي أمكن للشاعر من خلاله التعبير عن آماله والآمه وتقلباته النفسية. وعبر هذا الطرح من المتضادات والمقابلات اللفظية تمكن الشاعر من إرساء لبنات النص، فأثار انتباه القارئ ولفت نظره للفكرة الرئيسية، وذلك ليوقظ شعوره نحو واحدة من أهم القضايا الوطنية والموضوعات الوجدانية والأخلاقية والفكرية ذات الارتباط الوثيق بمختلف النواحي الحياتية: ألا وهي استشراف الواقع المأمول للوطن واستنفار الحس الوطني، استناداً إلى معطيات الماضي العريق وأصالته.
وهذا الطرح الجدلي الذي يسعي الشاعر لحسمه مستعيناً بأدواته الفنية من البيان والبديع، يتجلى في حالة القلق التى يعيشها الشاعر نفسه نحو ما تمر به البلاد من صراعات وشقاق لدهور عديدة، مما جعله يعالج غربة داخلية وغربة خارجية، فانقسم على ذاته واقعاً بين ضدين: الأول هو العراق الوردي الذي عمه السلام علي حين غرة من الزمن عبر مرحلة انتقالية، كالقمر الذي كان قد اكتمل بالفعل ليحقق سلاماً عابراً، تصالحت فيه الفصائل والفرق والأعراق، كالطيور التي صار يحفها طوق العناق وهي تسعي خماصاً لكسب العيش تحت مظلة الوفاق الوطني وتعود بطانا كسابق عهدها لتبني وتستقر وتعمر وتنهل من رحيق الحياة. وأما النقيض الثاني فهو الجانب المظلم للوطن ذاته، حيث الثورات التي يصنعها المثاليون ويجني ثمرتها الانتهازيون والمرتزقة. وهنا نلاحظ استدعاء لأحداث صادمة ينتقل فيها الحال من السواد للسواد، حيث أجواء الدماء والاحتراب واللصوصية والنهب والسبي وكأن الوطن يستجير من الرمضاء بالنار، ومن الوفاق للتشتت، ومن الحلم بلقاء الأحبة إلي التوجس من حدوث الفرقة الأبدية.
وبين الوعد والرجاء يتشكل الحلم علي استحياء، ويصعب تحديد المصير. فالتغيير لا ينبع إلا من الداخل ومنه تتحدد المسارات وينبثق فجر الحرية. وحتى يتحقق ذلك نجد الشاعر يقرر الانتظار، ولكن تفاؤله الحذر يحملنا للسؤال الاستهلالي: إلي متي؟