المسموح والممنوع على المثقفين العرب.. أية حرية لأي مثقف؟
بقلم: عماد خالد رحمة
“إنني مستعد لأقدم رأسي ثمناً لتعبيرك عن رأيك” فولتير.
“لا شيء لدينا ممنوع ومسموح… ما دام المثقف ملتزماً بقضايا أمته وهموم مجتمعه, ويحاول أن يرتقي بحياة أبناء هذا المجتمع تحت سقف الالتزام الأصيل الصحيح, والانفتاح على الآخر في إطار مبدأ المساواة واحترام عقائده وثقافاته. لكن شريطة ألا تكون هذه الرؤية قائمة على الإلغاء والاستئصال…. لذلك عندما أحترم عقيدتك ينبغي أن تحترم عقيدتي… عندما أحترم طريقتك في التفكير… ينبغي أن تحترم أيضاً طريقتي في التفكير… وما هدّم المروءة والأوطان ومزقها إلا الاقتتال خلف أراء متعصبة ولا ترى الآخر. ما دمت تحب هذا الوطن.. فأهلاً وسهلاً..هذا الوطن يستطيع أن يستوعب الجميع”.
بهذه الجمل والعبارات استهل الدكتور حسين جمعة رئيس اتحاد الكتاب العرب سابقاً رأيه المعنون “اختلاف الرأي سعة في الرأي ” في جريدة الثورة السورية العدد 12974 تاريخ 1 آذار 2006 صفحة 12. والذي جاء تحت العنوان الرئيسي (المسموح والممنوع على المثقفين السوريين).
من خلال قراءتنا للمشهد الثقافي العربي, يطرح اليوم أكثر من أي وقت مضى على كل مثقف عربي ينتمي إلى الأمة العربية, والقومية العربية, مهمة التساؤل المستمر عن واقع الوحدات الكبرى التي شكَّلت الايدولوجيا القومية منذ نشأتها, وذلك بهدف تحيينها وفحص مصداقيتها وفرز ما تحقق وما لم يتحقق عبر تاريخ طويل من الصراع والنضال. وما الذي استوعبته التجربة المجتمعية العربية من هذه الأهداف والشعارات الكبرى: الوحدة والحرية والديمقراطية والعقلانية, وحرية الرأي والتعبير. التساؤلات التالية ربما تفضي إلى أجوبة عن كثير من الهواجس التي شغلت المثقف العربي بعامة والسوري بخاصة.
لماذا يبدو أحياناً التاريخ الحديث لأمتنا وكأنه مراوحة في المكان أو في أحسن الأحوال مجرد انتحاء نحو الأهداف الكبرى؟ ما هو قسط الحرية ونوع الحرية الذي تم تخطيطه في وطننا العربي؟ ما هي التجارب التي تأتى لها النجاح وما أسباب إخفاق أخرى؟ ما هو قدر الديمقراطية الذي يسمح به واقعنا العربي وكيف يمكن تطوير النضال الديمقراطي العربي؟ وما علاقة الواقع الاجتماعي والسياسي العربي بالعقلانية؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي قد لا تكون مريحة ولا مطمئنة بقدر ما تكون استفزازاً للتفكير وحثاً على التساؤل ومدعاة للنقد, وفي هذا الإطار, وبهذه المناسبة أيضاً, يتعين علينا أن نتساءل عن علاقة واقعنا العربي بالحرية, وعن علاقة المثقف بالحرية: ما هي الحرية؟ وما هي درجاتها ومستوياتها؟ وكيف نصوغ إستراتيجية التحرر؟ إلى غيرها من التساؤلات. من بين عشرات المؤشرات التي يمكن رصدها من واقعنا العربي وفي ثقافتنا العربية والتي تشهد على تعطش مجتمعنا وثقافتنا لفكر حرية وفلسفة حرية.
عندما تهافت المترجمون والناشرون والقراء العرب في الستينات من القرن الماضي على ترجمة وتسويق البضاعة الفلسفية والروائية والوجودية على نطاق واسع في الوطن العربي. فقد كان ذلك مؤشراً مشخصاً لعلة هي تعطش المجتمع العربي إلى الحرية وحاجته الفعلية الشديدة إلى هواء الحرية, وخطاب الحرية لا يجده لا في ماضيه ولا في واقعه, لقد كان إقبال المثقفين العرب في مرحلة سابقة على البضاعة الفلسفية الوجودية تعبيراً مزدوجاً عن حاجة المثقفين إلى خطاب حرية, وعن حاجة مجتمعهم إلى واقع حرية.
واليوم مع انصرام هذه المسافة الزمنية على هذه الواقعة الفكرية نستطيع أن نتبين أن هذا الحنين إلى نشيد الحرية ونسماتها وهذا العرس الثقافي الوجودي لم يغير من واقع الأمر شيئاً بقدر ما يدل على مدى حاجة مجتمعاتنا لمناخ الحرية باعتباره المناخ الضروري والشرط الأساسي لتطور المجتمعات وتقدمها, نعم إن الحرية الوجودية في جوهرها حرية سيكولوجية. حرية اختيار بين سلوكيات وقيم متعارضة. وهذه الحرية المزعومة للإنسان تتحول لدى الوجودية إلى ماهية للإنسان ذاته. وبتحول الحرية إلى ماهية قبلية للإنسان تأخذ بعداً ميتافيزيقيا ينأى بها عن الأرض الاجتماعية التي يتعين أن تشخص فيها.
والمجتمع العربي في تعطشه لفلسفة وواقع حرية. من خلال تعطش المثقف لخطاب الحرية, يأمل في حرية عينية ملموسة لا في مجرد حرية سيكولوجية.
نعم أن القول بالحرية السيكولوجية يحقق تقدماً بالقياس إلى التأويل الرسمي الطاغي للتراث الذي ينفي هذه الحرية السيكولوجية ويرجع أفعال العبد كلياً إلى مشيئة الخالق وبذلك فهو قول يحقق نقلة نوعية في الوعي الاجتماعي لكن تطور الممارسة والفكر المعاصرين لمدلول الحرية تجاوز مدلول هذا المعطى السيكولوجي المحدود ـ على أهميته ـ وفتح الأبواب أمام تحقيق فعلي لعينات أخرى من الحرية الملموسة: حرية الرأي والتعبير, حرية الانتماء وتأسيس الجمعيات والأحزاب, حرية النقد, حرية التصويت, حرية الصحافة, حرية الفكر. الخ. أو بعبارة أخرى فإن التطور المجتمعي والفكري في المجتمعات الحديثة أدى إلى تصريف شعار الحرية العائم هذا إلى وحدات صغرى ملموسة ينظمها القانون نظرياً على الأقل ويوكل أمر تجسيدها في الواقع إلى موازين القوى الفعلية في المجتمع.
ورغم ذلك تظل الحرية كقيمة طوباوية هادية وملهمة ذات دور فعلي في التاريخ من حيث أنها تعبر عن مبدأ أمل وطموح طوباوي نحو تحقيق قدر أكبر من الحريات الملموسة في المجتمع.
فهي على الرغم من عموميتها ومن سديميتها وميتافيزيقيتها أحياناً تظل قيمة ملهمة ومصدر اجتذاب للمطالب والممارسات المجتمعية. بل إنه ما يزال بإمكانها أن تلعب دور فزاعة أمام الممارسات السلطوية المستبدة في كثير من الربوع العربية.
وسيظل لهذه القيمة دور وحدوي ما دام الواقع العربي ينفيها إلى عالم المثال والحلم. من هذا المثال تستمد فئة المجتمع الطليعية استلهاماً لكافة أشكال الحرية الملموسة التي أشرنا إليها. كما تستمد منها استراتيجيات التحرير الكبرى: تحرير الأرض من الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية والعربية, والاحتلال الانكلو أمريكي الغاصب للأرض العربية. وتحرير الإنسان من الاستغلال الاقتصادي والتسلط السياسي والتضليل الفكري.
وتحرير الفكر من سيطرة التقليد وتحرير الذهن من تسلط القيم والتقاليد البالية والعقلية الخرافية وتحرير المرأة من سيطرة الرجل, والطفل من سيطرة البالغ, وتحرير الحاضر من الارتهان بالماضي, مع الحفاظ على التراث الفكري والعقيدي والعقائدي الصحيح. وتحرير الإنتاج الأدبي والفني من سيطرة الأشكال والمناهج السردية والأساليب البلاغية القديمة أو العتيقة مع المحافظة على تراث الأدب العربي الثر الذي نعتز به أيما اعتزاز. وبذلك تغدو مسألة الحرية هي قضية المجتمع بكامله.
لقد أكد الدكتور حسين جمعة في إحدى دراساته المعنونة (الديمقراطية وحرية التعبير إلى أين) والتي قدمها محاضرة على مدرج المركز الثقافي بداريا بتاريخ 26/2/2006. “أن الحرية مرتبطة بالديمقراطية وهما مصطلحان يجسدان هوية الثقافة لكل أمة أياً كانت السبل المتبعة لدى أبنائها لتحقيقهما”, إلا أن الحرية بهذا المعنى ليست ثمرة يتعين اقتطافها بل هي محصلة صراع بين قوى وذهنيات ومصالح وفقط عندما تنتصر القوى الاجتماعية التي لها مصلحة أكبر في تحقيق الحرية يمكن فعلاً أن تنمو دائرة الحرية وتتزايد حظوظ الفرد منها مما يتأتى له ممارسة أوفر قسط منها. وبذلك يصبح نضال المثقفين العرب من أجل إقرار وتحقيق قدر أكبر من الحرية في مجتمعهم رديفاً للقوى الاجتماعية ذات الاختيار التقدمي والمنظور التقدمي والتي تناضل من أجل الحرية ومن أجل تحرير المجتمع العربي داخلياً وخارجياً لتصبح فيه الحرية مناخاً طبيعياً ومقبولاً. وقضية الحرية تطرح مسألة أخرى أساسية هي مسألة المشروعية السياسية, بالنسبة لأسس السلطة في وطننا العربي. فالسلطة السياسية سواء كانت تقليدية أو شخصية (البروبوغندة), أو قائمة على إيديولوجيا تحديثية, أو على رهان تحرري تحس بأن أسس مشروعيتها مجادل فيها في أغلب الأحيان، لذلك فهي غالباً ما تلجأ إلى معوضات تدعم هذه المشروعية المهزوزة.
حيث تتفنن في خنق المواطن, وحرية الرأي والتعبير كما تنخرط في سلاسل من المشاحنات والخصومات التي تجعلها دوماً حارسة للكرامة القطرية والحدود القطرية والكيان القطري.
إن الرأي حول الحرية يهدف إلى التأكيد على أن الرأي العام والخاص يجب أن يكون ضمن دائرة الحفاظ على القاعدة الوطنية والعربية واحترام المعتقدات وأن يكون متزناً ومتوازناً بآن معاً حيث نذكر القول الهام في هذا المجال : “لدي إيمانيات وأنت لك إيمانيات وأراء أخرى وهذا وارد في مذكرات حقوق الإنسان وفي مبادىء الثورة الفرنسية وفي عقيدتنا… ) من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( كما في القرآن الكريم. ولا داعي إذا اختلفت معك في الرأي أن أجردك من كل شيء وأقصيك فكرياً وجسدياً لأن اختلاف الرأي سعة في الرأي”.
إن إستراتيجية النضال الوطني لتحرير العقول يمتزج مع إرادات الأعلى حيث يجب العمل على دعمه وتقويته دون التضحية بالمجال الخصوصي بل تقويته حتى يحدث في الوطن العربي توازن بين آليات التحكم والتوجيه وديناميات التحرر والإبداع. لقد أدت كل هذه النضالات إلى تضخيم مهام الأعلى والمؤسسات الضاغطة على حساب مؤسسات حماية الأفراد والدفاع عن حقوقهم وحماية وتنمية مجال ممارسة الحرية الفردية وحرية الفئات بما في ذلك حرية المثقفين. مسألة الديمقراطية من إحدى أوجهها ذات صلة بهذا الواقع الذي ينمو فيه دور السلطة العمومية وتتقلص مجالات وديناميات ممارسة الحرية الفردية، والحريات الخصوصية.
إلا أن صراع المثقف العربي لانتزاع بعض نتف الحرية لا يتوجه فقط إلى السلطات والمؤسسات الضاغطة, بل كثيراً ما يصطدم بسلطة الجمهور, ورأي الجمهور ورأي وقوى الضغط التقليدي. فالجمهور لا يزال يشكل إحدى دعائم الرقابة الخاصة فيما يتعلق بحماية