لحظة ولادة الحكمة

بقلم: هند عودة

يقال أن الآلية التي عولجت بها مشكلة دخول كميات الهواء الكبيرة إلى المحركات النفاثة للطائرات، استلهِمت من عظمة صغيرة موجودة في أنف صقر الشاهين، والتي لولاها لأدى الهواء الداخل لرئتيه أثناء غطسه بتلك السرعة لانفجارهما.
وقبل يومين استمعت إلى طبيبٍ تحدث عن تجربة أجراها اليابانيون على البعوض، حيث خططوا بعض البقر دهانًا باللونين الأبيض والأسود، والبقية تركوها باللون الأبيض فقط، فكانت النتيجة أن البعوض لم يقترب من المخططة باللونين، بسبب القطبية التي أثرت على إدراكه، فأفقدته التركيز وحالت دونه ودون الاستقرار على جسم البقر.
إن هذا التذبذب الذي أنتجته صدمة القطبية في إدراك البعوض، هو ذات التذبذب الذي وصف به القرآن حال التائهين في بيد الشتات؛ “لاإلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء”، منطقة عمى وجودي مودية للتمزق، موافقة لمقولة الجاحظ” واعلم أن من عوّد قلبه التشكك، اعتراه الضعف، والنفس عروف، فما عوّدتها من شيء جرت عليه”. إنها رحلة الشقاء التي ألمح إليها دوستويڤسكي حين أرسل” الأرواح التي اعتادت القلق تظن أن الطمأنينة فخ”!
لايمكن للمرء أن يعبر الأنفاق المظلمة الموحلة دون عوالق يستحيل محوها من القلب. هذا التنقل المرهق هبوطًا وعلوّا يوهن عافية الروح ويسلبها ظل الراحة. إن الفانوس حين يتوقف عن الإضاءة يظل فيه أثرٌ من احتراق، يكسو جدرانه بالسواد، كذلك السواد الذي في قلوبنا. إنه الحزن على تلك اللحظات المضيئة التي انقضت من حياتنا. والقلوب لاتعرف الحياد… فإما مضيئة، وإما كئيبة لحزنها أنها ليست مضيئة.
“ميدانكم نفوسكم، فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإن خذِلتم فيها كنتم على غيرها أعجز، فجربوا معها الكفاح أولاً” 

ثم أني لم أجد كالتأمل زادًا للروح، وجلاءً لبصيرتها، وتقويةً لحجتها. التأمل الخارطة الربانية القادرة على إيصالنا لجوهر الأشياء وحقيقة الحياة. وصولاً مطمئِناً لم تستعجله خفة مآرب إثبات الذات. واثقًا، لم تربكه تجارب معامل ولانظريات دفاتر. متعاليًا عن تنصيص الماهيات والمصطلحات، حيث هو الضابط لما لامجال ضبطه بتعريف أو توليفه في نسق معرفية. وبقفزة نور: إنه لحظة ولادة الحكمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى