قطر وكأس العالم
بقلم: محمد أسامة
انقضت بطولة كأس العالم في قطر بما كان فيها من مباريات، وما جرى خلالها من أحداث، لتنتهي مناسبة هي الأشهر رياضيًا، والأبرز كرويًا، فنال لقبها فريق استحقَّها عن جداره، ورفع كأس البطولة اللاعب “ليونيل مِيسِّي” بعدما حازها بكل مهارة، لتنقضي لحظات المتعة والإثارة لكل متابعي اللعبة الأكثر شعبية في العالم، والأعلى جمهورًا بين الشعوب.
غير أنه كان علينا أن نقف على كل حادث وقفة، ونأخذ من كل لحظة عبرة، فتلك النسخة من كانت أوَّل بطولة كأس عالم على أرض دولة عربية، وبلاد مسلمة، وما كان لبعض ممَّن حملوا راية النفاق من الغرب، ومن أدمنوا الانطباح والغدر من عرب الشَّرق، أن يرضوا بهذا الواقع الذي جسَّدته إرادةٌ حرَّة قويَّة، وفرضته سلطة عربيةٌ، فحاولوا التشوية من صورتها، والطعن في حُسن تنظيمها، فأثاروا الشَّغب، وأكثروا اللغط، ولكنَّهم ارتدُّوا خائبين، ورجعوا على أعقابهم خاسرين.
لقد أثبتت قطر بالفعل أنَّ العربَ أمَّةٌ ليست دون الغرب منزلةً، ولا أدنى منهم مرتبةً، ولا أقلَّ منهم قدرة في تنظيم تلك المحافل، وترتيب تلك الانجازات، وأنَّهم قادرين على ذلك إذا ما اتَّفقت لهم الإمكانيات، واتَّحدت لهم العزائم، وتوفرت القدرة على التخطيط، واكتمل لهم النظر الثاقب الحسن، وأن الفارق بين الغرب والعرب ليس فارق ذكاء وغباء، وليس فارق انحطاط وارتقاء، ولكن الفارق الوحيد أن العرب دومًا قد تعوَّدوا على محاربة بعضهم، والخلاف فيما بينهم، حتى ينهزموا جميعًا، وابتُليت كذلك شعوبهم بحكومات استبدادية حاربت المبدعين، وحالت دون تفوِّق النابهين، فلا تقر لهم قدرًا، ولا تُقيم لهم وزنًا، وتعدهم بالشقاء والفقر، وتربيهم على العذاب والقهر، فتنضبَ موارد الإبداع، وتنزوي أسباب النجاح، فكان عامل الخلاف والاستبداد هو السبب الرئيسي الذي يمنع العرب من أن يقدِّموا ما يرفعهم، ويبرزوا طاقاتهم.
وقد تجسَّد ذلك حينما حاول بعض خصوم قطر السياسيين بالفعل أن يفسدوا عليها هذا الإنجاز، ويسحبوا منها شرف التنظيم، ولو تم َّذلك لحرم العرب جميعا من هذا التكريم.
لقد كان تنظيم قطر لبطولة كأس العالم تنظيمًا رائعًا، وتنسيقها لمبارياته وفعالياته تنسيقًا ممتازًا، فقد شيَّدوا الاستدادات بأسلوب معماري يدل على الفخامة، ولا تُعْوزه عوامل الإتقال والمهارة، فرتَّبوا المواصلات والفنادق، ووفَّروا الخدمات والأمن والحماية، فلم يظهر في تنظيمهم نقص، ولا في إدارتهم للفعاليات عوز، ونجحوا كذلك في إبراز هويَّتهم العربية، وثقافتهم الإسلامية، بأسلوب قبله الزُّوَّار، ولم ينزعح منه السياح، فاطلعوا على البلد وما فيه من دين وثقافة، وطبيعة وحياة، فاحسنوا تنظيم احتفال الافتتاح، وأحسنوا تنظيم حفل الختام، وكسبوا احترام وتقدير الجميع، وقدَّموا صورة حسنة للعرب التي شوهها متطرفوا داعش، وحكام الاستبداد، وأشاد بتنظيمهم كل من شهد البطولة وحضرها.
ولم يكتف مسؤلو قطر بذلك بنجاحهم في تنظيم البطولة، بل إنهم اجتهدوا في إبراز ثقافتهم العربية، وإظهار هويَّتهم الإسلامية، ليتعرَّف عليها الزوَّار والأجانب، الذين يفدون عليها من كل جانب، وقاموا بكتابة الآيات على الجدران، ورفعوا في مدنهم صوت الآذان، وحاولوا نشر تراثهم الإسلامي، والمُدهش أن الزوَّار الأجانب لم يتضايقوا أبدا من صوت الآذان، بل وأقبل بعضهم على الاطلاع على الإسلام، ومنهم من زار المساجد التي أُقيمت في الاستدادات، فكان بذلك فرصة ثمينة لتعريف شعوب العالم بالإسلام، وهو ما كان صدمة للعلمانيين الذين صدَّعوا رؤوسنا بأن الآذان يزعج الأهالي والزائرين، وينادون بفصل الدولة عن مظاهر الدين، ليتبيَّن تدليسهم، ويفتضِحَ نفاقهم، ويظهر أن الزوَّار لم نزعجوا من صوت الآذان كما زعموا، ولا كرهوا مظاهر التديُّن مثلما ادعوا، بل إن بعض الزائرين قد أُعجب فعلا بالآذان، ولم يرَ حرجًا في إبراز مظاهر الإسلام، بل ورغب بعضهم في المشاهدة والإطلاع، حتى لو كان من أجل الرغبة والاستكشاف.
كما نجحت قطر كذلك في قول كلمتها، وأجبرت سواها على احترام ثقافتها، فنجحت في منع الخمور، ومنعت جميع مظاهر التعري والفجور، ولم تسمح بنشر الشذوذ، بل ومنعت حمل شاراته في الملاعب، ونجحت في جعل “الفيفا” يعاقب على ارتدائها، ويمنع الترويج لها، وهو حق لا لبس فيه، وأمر لا جدال عليه، فالزائر عليه أن يحترم ثقافة المقيم، فلا يجب أن يحدث حدثًا يتعارض من الأخلاق، ويتنافى مع القيم والأعراف.
وقد كشفت قطر كذلك عن مظاهر النفاق عند الغرب، وفضحت ازدواج مواقفهم أمام الخلق، إذ نرى بعضهم يصمم على رفع أعلام المثلية بكل بجاحة، ومخالفة الأعراف بكل وقاحة، في محاولات لم يكن هدفها ما زعموا من حرية الرأي، أو مجرد إبداء القول، ولكنها كانت ألوانًا من المكايدة السياسية، وأنماطا من التصرفات الصبيانية، التي تكشف معاير الغرب المزدوجة، وأفكارهم المتلوية، في الإصرار على دعم قضايا لا تمت للرياضة بصلة، وليس لها بتنظيم البطولة أية علاقة.
وقد حاول بعض المشجِّعين دعم الشذود، واجترأ بعض من المشجعات على التعري، لكنَّهم واجهوا مواقف حازمة، وتعرضوا لقرارات صارمة، وتم ترحيلهم فورًا إلى بلادهم، وعدم التجاوز عن أفعالهم، كما قام لاعبو المنتخب الألماني بوقفة احتجاجية اعتراضًا على منع قطر لترويج الشذوذ، وصرَّح مدرب فريقهم تصريحات عنصرية بكلِّ برود، فكانت النتيجة أنهم خسروا أولى مباراتهم، وخرجوا من البطولة يجرُّون الخيبة في أذيالهم، وقد اعترض حتَّى بعض عقلاء الغرب على هذا التصرف ورأوا أن فعلهم هذا قد شتَّت تركيزهم، وشغلهم عن غايتهم، فانشغلوا عن الرياضة بالسياسة فكانوا من الخاسرين.
إن هؤلاء الذين أشاروا بكتم أفواههم، هم أنفسهم من عاقبوا لاعبهم المسلم “مسعود أوزيل” حينما عبَّر عن رأيه، وتعاطف مع مسلمي الإيجور بقوله، فلماذا يلومون على البلد المنظِّم ما يفعلون مثله. لتُفتضَحَ أكاذيبهم الملتوية، ومبادئهم المزدوجة، وعدالتهم المجتزأة، لتثبت قطر من جديد أن فرض الثقافة العربية، وإبداء الهوية الإسلامية، أمرٌ ممكن لا مشقَّة فيه، بل هو واجب ولابد منه، فكان درسًا أنه لا داعي للتراجع عن تراثنا، أو لا وجه للتنازل عن معتقداتنا وقيم ديننا.
إنَّ لعبة كرة القدم قد اكتسبت شعبيَّة هائلة بين الشعوب، وارتقت منزلتها بين الجماهير، فصارت لها مواسم تجمع كل شعوب العالم بمختلف أعراقهم، وتعدد لغاتهم وأجناسهم، وتباين ثقافاتهم وألوانهم، فاجتمع لمشاهدتها المختلفون، واتَّفق على متابعتها المتحاربون، فجمعت بين من افترق، ولمَّت شتات من ائتلف، وصار لمشاهدة مبارياتها متعة، وبات ما يُرى فيها فنًّا وإبداعا، ولا بأس للعرب أن يفخروا إذا ما حققوا من كسب بعض جولاتها، وتحقيق إنجاز في إطارها، كما فعل منتخب المغرب، الذي حل في المسابقة رابعا ممثلا للعرب، ولكن لا ينبغي أن يشغلنا ذاك عن قضايا أمتنا، ومشاكل مجتمعنا، وما نعانيه من فقر وتقهقر أخلاقي، وانحطاط مجتمعي وثقافي، إنما كان على العرب أن يتخذوا من تلك اللعبة وسيلة للتفوُّق وإبراز الموهبة، وإظهار المهارة والمقدرة، ونشر الثقافة وأسباب القوة الناعمة، عسى النصر الذي قد يستصغره البعض في تلك اللعبة، يكون فاتحةً لنصرٍ أعظم، وأنجاز أكبر، ما اتَّفق العزم، واكتملت الهمَّة، وهو ما نجحت قطر فيه ولو من بعض الوجوه.