لحظة اغتيال غسان كنفاني كما يرويها شاهد عيان
حمزة البشتاوي | كاتب وإعلامي
يقول الشاهد كنت شاباً صغيراً عندما وقعت جريمة الإغتيال ولكنني ما زلت أتذكر كيف كانوا يحومون حول المنزل والسم في عيونهم، وكنت قبل يومين من الجريمة قد أخبرته بوجودهم، وحين لم يهتم قفز قلبي أمامه هاتفاً: حذار حذار فربت على كتفي وقال: لا تخف يا حبيبي، فالدم أيضاً يرسم خريطة الوطن. وفي الساعة السابعة والنصف من صباح يوم السبت في الثاني من شهر تموز عام 1972 كان غسان كنفاني يجلس يحتسي القهوة على شرفة المنزل المطلة على أشجار الزيتون قبالة الطريق العام، يتذكر عكا الروح والقلب ويتذكر ملوحة الهواء ورائحة الخبز والدروب، مع شعور بالقلق كان ينتابه منذ أن أخبره صحافي أوروبي بأن هناك قراراً إسرائيلياً بقتله، ولكنه كعاشق متيم بسور عكا ودروب حيفا ويافا وبرتقالها الحزين بقي مستمراً بالكتابة والحياة والحب.
وكعادته في كل يوم حمل قلمه وأوراقه ليغادر المنزل وما أن وضع مفتاح سيارته بجيبه حتى طلبت منه إبنة أخته لميس أن يوصلها بطريقه إلى الجامعة فوافق مبتسماً، وبينما كان ينزل الدرج إنتابه قلق كبير فنادى على لميس وطلب منها أن تؤجل ذهابها إلى الجامعة ليوم آخر لأنه على عجلة من أمره ولكنها أصرت بدلع شديد فقال لها: حسناً ولكن عودي إلى المنزل وأحضري لي علبة سجائر وأنا سأخرج بالسيارة من الكاراج إلى المدخل ونلتقي هناك. وتقدم غسان باتجاه السيارة وراح يتخيل هطول زخات من الرصاص ونار مشتعلة وأصوات إنفجارات، ثم أخذ شهيقاً وزفيراً طويلاً محى تلك الصور وسحب بقوة مفتاح السيارة من جيبه وقبل أن يستخدمه لاحظ وجود صمت غريب ومريب كسرته ضحكة لميس التي حضرت مسرعة فدخل غسان السيارة وفتح لها الباب وجلست بقربه ورأت يداه ترتجفان وعيناه تدمعان فسألته: هل أنت خائف، فقال: أنا أعيش من أجل غد لا خوف فيه. ثم أمسك قلمه وكتب سأعود إلى عكا الجميلة التي تهتف باسمها كل شظية من شظايا القلب والروح. ووضع يده على رأس لميس وقال: لن يكون موتاً طبيعياً، وما أن أدار المحرك أطلق زفرة قوية وتنفس الصعداء وضرب على مقود السيارة وكأنه يقول: نجونا، وما أن خرجت السيارة من الكراج وأصبحت قبالة شجرة الزنزلخت حتى ضغط المجرمون على زر حقدهم فانفجرت السيارة والكاراج والمنزل وأشجار الزيتون والطريق العام واحترق جسد غسان ولميس بقرار من غولدامايوفيتز المعروفة بإسم غولدامائير وبتنفيذ وإشراف تسفي زامير رئيس جهاز الموساد الذي إستعان بعملاء محليين قاموا تحت جنح الظلام بزرع عبوة ناسفة في السيارة تاركين بالمكان ورقة كتب عليها (مع تحيات دولة إسرائيل) وموقعة من قبل غولدامائير التي صرحت بعد جريمة الإغتيال قائلة: اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح، ومن قلم يشكل خطراً أكثر من ألف فدائي مسلح. ولكن الخطر الذي شكله غسان كمناضل ومثقف وحزبي وصحافي وقاص وروائي وسياسي وكاتب للأطفال وشاعر ورسام ونحات ومؤرخ وباحث ومعلم ورب أسرة وخطيب مفوه ما زال مستمراً كعشقه لعكا الجميلة وما زال غسان الفكرة والرؤية حاضراً لا يغيب ولو اغتالوه ألف مرة باليوم فالفكرة لا تموت ولا تندثر.