شمسه والقنديل.. قصة
د. سامي الكيلاني
أراد الهروب من الغيوم التي تحاصر شمسه منذ الصباح. الصباح الذي دخله مبكراً حاملاً بقايا حلم عاشه وكأنه واقع، حلم نفث فيه كل مكنونات نفسه الغاضبة، لم يصرخ، بل ألقى في وجه المدير الظالم حديثاً منطقياً متسلسلاً وانتصر، انتصر بقوة الحجة، وانتصر بسكوت المدير الذي استطاع الحلم إسكاته، منحه الحلم شجاعة كان بحاجة إليها وكان في غاية السرور بها، لكنه أدرك أن سكوت المدير ليس طبيعياً، كان مفاجئاً فشكّ في الحلم أنه في حلم، استيقظ مضطرباً ولم يستطع العودة إلى النوم. عاش حالة مضاعفة من لوم الذات، لماذا لا يستطيع أن يفعل ذلك في الواقع؟ كان حديثه مقنعاً ومتسلسلاً ويستطيع أن يعيده كاملاً، ولكن في المقابل لا شيء غير الحلم يمكنه أن يغلق فم المدير ليستمع إلى الحديث كاملاً دون مقاطعة. لوم الذات بدأ يكبر في داخله، تحول اللوم إلى غيوم داكنة حاصرت شمس روحه.
قرر أن يلجأ لسماع أغنية، معتقداً أن الغناء كالعادة سيعطيه دفعة إلى الأمام ويخرج شمسه التي حاصرتها الغيوم. خفف من سرعة السيارة بشكل لاإرادي وكأن تشغيل المذياع بحاجة إلى ذلك. انطلقت موسيقى يعرفها، جو فيروزي يتهيأ له، محراب موسيقى مألوفة ينفتح أمامه سيدخله بكل روحانية، الموسيقى تتقدم ببطء، الحوار يكشف هوية المسرحية، مسرحية الليل والقنديل. الصوت الحزين لمنثورة أعاده إلى دائرة الحزن والغضب، مزيج الحزن والغضب زاد طينه بلّة وزاد بلّته طيناً، الصوت الذي يرثي القنديل الحزين الذي لن يضيء لأن الفرح الموعود قد سرقته الكارثة، كارثة اختفاء الغلة التي اؤتمنت عليها منثورة الطيبة. المسرحية يعرفها ويحفظها، لكنه لم يفكر أبعد من الصوت الحزين الذي تخيّله يتردد في الوادي انطلاقاً من الصخرة التي تشرف على الممر. اتجه إلى يمين الشارع وأوقف السيارة، مستسلماً للحزن والقتامة اللذين تكثفا من رثاء القنديل وصوت منثورة “ما كان ظني يشح فيك الزيت”، ردد مع الصوت “ما كان ظني تغيب شمس الروح في هذا الصباح”.
استيقظ فيه حرص على السلامة، قرر أن يبقى على حاله وألاّ يعود إلى السفر على الشارع الرئيسي إلاّ بعد أن يحدّث نفسه ويحاورها لينظفها من أدران الحلم التي علقت بروحه، الأدران التي حرمته النوم وشاركته فطور الصباح الذي ازدرده دون الإحساس بطعمه. هنأ نفسه على هذا القرار واعتبره مؤشراً إيجابياً. لم يفكر في احتمال أن يثير وقوفه على يمين الشارع شكوك الجيش أو المستوطنين على هذا المفترق. لم يعرف كم مضى من الوقت على وقوفه وحواره الذاتي عندما انتبه من خلال المرآة لصورة الضوء الأزرق، سيارة شرطة تأتي من بعيد، فكّر أن يتحرك، لكنه تردد فقد تثير حركته المفاجئة شكّهم أكثر. عبرت السيارة من جانبه دون أن تخفف سرعتها أو تتوقف. انتبه إلى صوت الراديو الذي كان قد غاب عنه وهو غارق في تقليب أمور الحلم وهذا الصباح. كانت المسرحية قد وصلت إلى نهايتها المتفائلة، عاد القنديل ليضيء الممر الجبلي بعد أن عادت الغلة المسروقة.
اشرقت شمس روحه بعد أن تحررت من الغيوم التي كانت تحجبها، قرر أن يحافظ على إشراقتها. أرسل رسالة إلكترونية من هاتفه المحمول إلى العمل يعتذر فيها عن الدوام اليوم. أعطى إشارة الاندماج في الشارع وانطلق يدندن مع الموسيقى وهو يرى الشارع بوضوح ثم التف التفافة كاملة عائداً إلى البيت.