في يوم الشعر العالمي.. لماذا الشعر؟

أحمد محمد أبو مصطفى | فلسطين – باحث في النقد والأدب               

يصادف السبت الموافق  (21/ آذار) اليوم العالمي للشعر، وقد خصصته منظمة اليونيسكو للاحتفال بالشعر وتشجيع تدريسه وقراءته وكتابته في كل مكان في العالم، وهذا نبع من الأهمية التي يتمتع بها الشعر، هذه الأهمية لم تأت من العبث ، ولم تكن وليدة الصدفة ، بل كانت نتاج تراكم حضاري، فمن فجر الإنسانية لعب الشعر في دورًا عظيمًا في صناعة الأمم، والتعبير عن ثقافتها وأفكارها وطريقة حياتها، فالشعر أقدم الأجناس الأدبية، وقد ارتبط بحياة الشعوب وحضاراتها ،فولد الشعر على أرض العراق وتجلى في الأساطير والملاحم البابلية والسومرية  وخاصة ملحمة جلجامش التي عالجت هاجس الإنسان في مسألة الخلود، وكان لليونان القديمة قصب السبق في الاهتمام به، ووضعه في منزلة خاصة ، فكان الشعر لديهم مرتبطاً بالدين، حيث اعتمدت طقوسهم وديانتهم على تردديد الأشعار غاية التقرب إلى الآلهة ،والشعر كان لغة يكتب بها المسرح وتخط بها الملاحم فمن سوفوكليس إلى أسخيلوس  إلى غيرهم من الأدباء الذين سطروا ملاحمهم بالشعر ، واهتم به فلاسفتهم ، وأبرزهم أرسطو الذي انبرى في كتابه فن الشعر على تصنيف الشعر وتقعيده ، كذلك كانت إساهمات من فلاسفة مثل أفلاطون وغيرهم..

واستمر الاهتمام بالشعر في العهدين الروماني والبيزنطي، وارتبط كذلك بالأديان حيث زعم رهط من العلماء أن التوراة كانت أول من بشَّر بالشعر، وخاصة في سفر يدعى بسفر المزامير، ولكل أمة شعر خاص بها، يتميز عن غيره من شعر الأمم الأخرى، وقواعده تناسب اللغة التي ينظم بها.

وعند العرب نال الشعر حظوة عظيمة، حتى جعلوا منه علمهم الأول، وكما قال ابن الخطاب ” كان الشعر علم قوم لم يكن لهم أصح منه “ووضع العرب له قواعد بنائية وخصائص أسلوبية، فعرفوه  “بالكلام الموزون المقفى الدال على المعنى ويكون أكثر من بيت”.

وجعلوا له  منذ نشأته بعناصر بنائية ميزته عن الأشكال الأدبية الأخرى ، فاللغة المكثفة المليئة بالانزياحات، والخيال الفضاض، والصورة البليغة، والعاطفة الجياشة، ورؤيا الشاعر في القصيدة (الفكرة)، والوزن والموسيقى، هي أهم أسس الشعر ولا شعر دون هذه العناصر، وأضف إليها عنصرًا أساسيًا آخر وهو الدهشة لما لها من دور مؤثر في إيصال الفكرة والرسالة المرجوة من القصيدة .

لقد كان الشعر بالنسبة للعرب كما قال ابن فارس: “الشعر ديوان العرب ، وبه حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة ، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله ، وغريب حديث رسول الله (ص) وحديث صحابته والتابعين “

والشعر سجل به العرب أيامهم ووثقت به تاريخهم، وعبّر به الشعراء عما كان يحوق بهم وبمجتمعاتهم ، فقد كان إعلانا عن وجودهم، وتعبيرا عن حكمتهم، ويقول ابن رشيق القيرواني: ” العرب أفضل الأمم وحكمتها أفضل الحكم، وشعرهم أشرف الكلم “

واستمر الشعر العربي السير في مضمار التطور، ومواكبة التقدم العلمي والحضاري ، والتكيف مع تقلب الأزمان والأحوال، وتجلى ذلك في العصر الحديث عندما تمرد الشعر على شكله العمودي القديم ، ولجأ إلى نظام التفعيلة والسطر الشعري، مع المحافظة على السمت الأصيل له ،وكذلك الاحتفاظ بأوزانه وموسيقاه العذبة، وأسهم كذلك في نقل القصيدة العربية من الغنائية والموضوعية السطحية إلى الموضوعية العميقة ، التي صنعت من القصيدة رسالة يعبر بها المبدع عن مكنونات نفسه ، وعن هموم  مجتمعه، فأصبح بمثابة ضمير  متقد  له.

إن الشعر نقد للحياة ومهمة الشعر أن يتصل بها ، ولا يبتعد عنها ، فكما قال آرنولد : الشعر “الأداة الأولى والأسمى للمعرفة حين يجمع في العظيم منه بين العقل والعاطفة ” ، ولا يقف الأمر عند ذلك فالشعر خلود للأمم ، فهو وعاء ذاكرتها الجمعية ، وهو المعبر الأول عن وعيها الجمعي ، بدءًا بالنشيد الوطني وانتهاء بأدب الأطفال والأناشيد البسيطة التي يرددونها ، ولنزار قباني قول شهير في ذلك :  “لو أن سيف الدولة كان حادثّا تاريخيًا لانتهى ، ولكن المتنبي خلّد سيف الدولة وجعل منه حدثًا شعريًا “

واليوم ونحن في الألفية الثالثة يبقى الشعر الجنس  الأدبي الأسمى على جميع الأجناس الأدبية  ، كما يبقى الجنس الحصين  الذي يَمِيزُ  الأديب الحقيقي من المزيف ،نظرًا لقواعد الصارمة التي لا تقبل التحريف والتغيير،   ولن يستطيع أحدٌ  تغطية  دوره وحجب  شمسه ، إلا أن نوره يبقى ساطعًا مشعًا محرقًا لكل من حاول ظلمه وتغطيته ، وكاشفا عروة كل مدع للثقافة والأدب ،فلا يصح إلا الصحيح  ، والخلود مكتوب منذ الأزل  للأصلح ، فلا سبيل لإلغاء دور الشعر وإحلال جنس أدبي آخر مكانه ، فسيبقى ديوان العرب منذ خليقتهم الأولى وإلى يومنا هذا ، فالشعر واكب كل قضاياهم السياسية والإنسانية  من الاستبداد إلى مقاومة الاحتلال إلى القضية الفلسطينية وإلى مطالب العدالة الاجتماعية ، فكان المعبر الأول ، والصوت الأقوى الذي يصدح  في كل الميادين .

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى