قراءة في نص ” البلياتشو ” للشاعر أحمد نصر الله

سي مختار حمري |  المغرب

مدخل:
قصيدة توظف شخصية محورية ذات دلالات جد متشعبة يصعب حصرها في مجال معين ظاهريا تخفي اكثر مما تكشف ويتخد الشاعر مطية الاسلوب السوريالي مع اعتماد التناص والانزياحية الدلالية بشكل واسع وتوظيف مابمكن تسميته بالغموض اللغوي . لكن بعد احالته على الواقع الاجتماعي العربي بشكل متحفظ واعتماد بعض المفاتيح التي يمكن رصدها يتكشف لنا بعض مايخفيه وكما يقول محي الدين ابن عربي”التلميح دون التصريح ،والاشارة دون ذكر العبارة “.

القراءة:
بالإقتراب من النص يستوقفنا العنوان المثير للإنتباه ”البلياتشو” : اسم ، معناه لغويا المهرج ،البهلوان الذي يضحك الناس بحركاته وهيئته وكلامه .. هو عنوان لفيلم مصري مشهور يعود انتاجه الى 2007 تعبر من خلال شخصيته البلياتشو عن قضايا القهر والطغيان
الذي يتعرض لهما البسطاء كما يتطرق للعديد من القضايا الإجتماعية والسياسية .. قد يرمز إلى رجل سلطة ذو نفوذ كبير مثير للسخرية والتهكم . قد يكون شخصية باعت نفسها لمن يدفع لها لتهاجم المعارضين وتمدح الموالين ، مفرطة بشكل خطير في افتعال الأزمات ،ولفت الإنتباه …. …العنوان محفز لقراءة النص واكتشاف البعض ممايخفيه…

ثلاثة عصافير تجمعت
على زاوية فمه
نستحضر أقصوصة ل(د.ابراهيم الفقي)ثلاثة عصافير يقفون على الشجرة .
تقول : ثلاثة عصافيرعلى الشجرة قرر أحدهم أن يطير..فكم عصفورا سيبقى على الشجرة
يتبادر إلى الذهن أنه سيبقى اثنان لكن الجواب يكون بقي ثلاثة لأن من قرر الطيران لم يفعل، بقي الوضع على حاله ..الخلاصة كم قرار قلنا سنفعله ولم نفعله
نستنتج اذا أن الثلاثة عصافير على زاوية الفم عند البلياتشو ، رجل القرار تعني أنه يقول لكن دون أن يمر إلى الفعل ، كلامه مجرد هراء.. الحكمة المستقاة : ليس كافيا أن تتمنى أو ترسم أهداف إنما يجب العمل على تحقيقها.

يعجن السحاب في محارة الوقت المثقوبة

بينما النهر يجلس تحت أرنبة أنفه
يبتلع علامتي استفهام كل خمس حسرات
السحاب يرمز إلى المطر،الماء أوالافكار لكنه يعجن في محارة الوقت المثقوبة التي يتسرب عبرها العجين ، إذا مجرد كلام بلا طائلة ترجى من ورائه ، بينما النهر وهو الأقرب إلى نظره الموجود تحت أرنبة أنفه لا يعيره أي هتمام . هذا يعبر عن قصر في النظر في الاهتمام بما يشكل الأولية عوض تبني أفكار وهمية قد لا تجلب ولو قطرة ماء واحدة أو فكرة مخصبة. و الأسئلة التي تطرح يبتلعها كل خمس حسرات أي عبر فترات زمنية متوالية، في فيلم البلياتشو يستعمل المخرج عبارة (بعد مرور خمس سنوات) كانتقالة زمنية .. ويمكن أن نفترض أن الشاعر بدوره يوظف هذه التقنية خمس حسرات (شدة التلهف والحزن ) كانتقالة زمنية لها بعد نفسي ..

هنا خلف أذنه اليمنى
زلزال مشاغب
يهرب الأشجار من فم غيمة البغي
هنا تعني بالقرب منه حيت هو موجود مكانيا يتعرض لهزات أرضية تقض مضجعه و تولد المشاكل ويصحبها تهريب الأشجار من فم غيمة البغي ,المعرفة هنا ، مايعني أن هناك عمل غير قانوني ، فاجر وفاسد في نظره صادر عن أهل البدع الذين يسعون إلى نشر الفساد وقد يكونون من المعادين له وقد تكون للعملية أبعاد متعددة….الغيمة قد تمطر ويكون لها مردود وتهريب الأشجار قد يكون من أجل غرسها لتعطي الثمار أو لحرقها لإشعال النيران وقد ترمز إلى سلاح مهرب..

هناك تحت عينيه بحران ليسا على وفاق
يتأهبان للدخول في قبعة قرصان
هناك تحت نظره بحران ، مقبلان على فوضى ستتجلى في انتشار أعمال القرصنة ،السرقة البحرية . والصراع على النفوذ مما قد يكون سببا في عدم الإستقرار وجلب الحرب بين الأطراف المتنافسة اقليميا ..

من بعيد يبدو
طابع حسن على خده الأيمن
من جشاء سنبلة جائعة
ربما على يمينه يوجد من يتوهم أنهم أصدقاؤه ،الذين كانوا جياعا وبعد شبعهم صار بالإمكان الإستفادة من جشاءهم الفائض من معدتهم بعد امتلائها

نذبة غائرة على خده الأيسر
فتل ليلها
من دمع مخيم فقد عذريته
على يد جرد منزوع الصباح
من جبينه يتدلى خفاش وازميل
وامرأة حافية تعبر القصيدة
بملابسها الداخلية
النذبة على الخد الأيسر ترمز إلى مخيم يقطنه اناس مهجرين ،هتكت عذريته ، على أيدي متسلطين يشبههم الشاعر بالجردان من فصيلة القوارض وهي من اكثر الحيوانات قدرة على تدميرأنواع الحياة الأخرى الى جانب الانسان بالطبع وترمز للخيانة، الرعب، الكراهية والبغضاء. إضافة إلى أنها منزوعة الصباح، تعيش وتنشط في الظلام .. ومن جبينه يتدلى خفاش، مخلوق شيطاني كما يوصف يتجسد في الساحرات و الشيطان (السحر الشعوذة) ويكنى بمصاص الدماء، إضافة الى تدلي الإزميل معه وهو آلة حادة قد تستعمل للفتك بالضحايا .. أمام هذا الكائن المرعب تظهر امرأة شبه عارية الا من ملابسها الداخلية تعبر القصيدة أو الرواية أو المفكر فيه، وقد سلبت من كل حقوقها حتى ملابسها التي تستر عورتها خلعت عنها ، صورة بالغة الدلالة

من أذنه اليسرى تطل مئذنة
يعلوها قرد يرتدي ثلاثة منابر
المئذنة ترمز إلى الدين الإسلامي ويعلوها قرد ، المعروف بتقليد الحركات دون اشغال التفكير وتتم الاشارة هنا الى رجل الدين الممثل لثلاثة منابر أو توجهات أو لنقول جهات ذات نفوذ يخضع لتاثيراتها يردد ما يملى عليه من طرفها دون حس نقدي ، وهذه المنابر رمادية لا تلتزم بلون واحد فلا هي بيضاء ولا هي سوداء مما يتناقض مع تعاليم الديانات التي لا تؤمن بالمنطقة الرمادية فهي قاطعة في مسألة المعتقد..

يضحك
فينكمش الزمن في حنجرته
تخرج عناوين الأخبار من دبره
يضحك البلياتشو فيحنط الزمن في حنجرته ، تتوقف عجلته ومعها الدينامية ويغيب الكلام و الفعل..فتخرج عناوين الأخبار من دبره على شكل براز أو هواء بغيض كريه مقرف ..

يستعرض قبعته
تلتوي المسافات بين العتمة والصمت
يستعرض قبعته ،مايغطي رأسه مما قد يمثل قمة افكاره فتكون النتيجة طية بين سطحي الظلمة والصمت اي لا رؤية لا كلام ولا افكار فراغ مطلق ولا اعتبار لوجود الآخر..

يشير بعصاه
يفقد الجمهور الضوء والربيع
تكفي الإشارة بالعصا ليعم الظلام ويختفي الربيع رمز التفتح والخصوبة يسود التحكم في المشهد بجميع ابعاده الطبيعية ، الفكرية ، الإجتماعيةوالسياسية وكأننا امام ديكتاتور لا بلياتشو

يشير ثانية اليهم
يصفقون يصفقون يصفقون
الجمهور الذي فقد الضوء والربيع لم يعد يعرف الا التصفيق بحرارة بمجرد الإشارة لا بغرض التفاعل مع الأحداث فقد روض على التصفيق ، اصبح مجرد آلة مصفقة بدون فكر او إختيارات أو معارضة سلم امره وكل شؤونه الى البلياتشو….

خلاصة:
نص كتب بتقتية وفنية عالية تستحق كل التنويه ، بلغة سلسلة مسترسلة في شكل صور شعرية جميلة غنيةبالافكار التي ترصد الاختلالات على مستوى الواقع العربي.

النص الشعري : للشاعر أحمد نصر الله

البلياتشو

ثلاثُ عصافيرَ تجمّعتْ
على زاويةٍ مِن فمِهْ
يَعجنُ السّحابَ في مَحارةِ الوقتِ المثقُوبةِ
بيْنما النَّهرُ يَجلسُ تحتَ أَرْنبةِ أنْفِهْ
يَبتلعُ عَلامتَيِ اسْتفهامٍ كُلَّ خمسِ حَسراتْ
هُنا خلْفَ أُِذنهِ اليُمنَى
زِلزالٌ ُمشاغِبٌ
يُهَِّربُ الأشجارَ ِمن فَِم غَيمةِ بَغْيْ
هُناكَ تحتَ عينيِْه بَحْرانِ لَيْسَا على وِفاقْ
يتأَهَّبانِ للُّدخولِ في قُّبّعةِ قُرصانْ
مْن بَعيدٍ يَبدُو
طابَعُ حُسْنِ عَلى خَدِّه ِالأَيْمنْ
مِنْ جُشاءِ سُنبلةٍ جائعةٍ
ونَدبةٍ غائرة ٍعلى خدِّهِ الأَيسرْ
فُتلَ ليلُها
مِن دَمعٍ مخيم فقَدَ عُذريَّتَهُ
على يدِ جِرذٍ مَنزوعِ الّصباحْ
مِن جَبينِهِ يَتدلَّى خُفّاشٌ وإِزْميلٌ
وامرأةٌ حافيةٌ تَعْبُرُ القَصيدَةَ
بِملابِسِها الدَّاخليَة
مِن أُذُنِه اليُسرَى تُطلُّ مِئذنَة ٌ
يَعلُوها قِردٌ يَرتدِي ثَلاثَ مَنابِرَ رَماديَّة
يَضحكُ
فيَنكمِشُ الَّزمنُ في حَنجَرتِهِ
وتخْرجُ عناوينُ الأخبارِ مِنْ دُبُرٍهْ
يَستعرضُ قُبّعتَهُ
تلْتوي المسافةُ بين العَتمةِ والصَّمتْ
يُشيرُ بِعصَاهُ
يَفقِدُ الجُمهورُ الضَّوءَ والَّربيعْ
يُشيرُ ثانيةً إليهِمْ
يُصَفِّقُونَ يُصَفِّقُونَ يُصَفِّقُونْ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى