ذهب في مناكب الهوى فهوى

طاهر العلواني | مصر

ومِن العجائب أن عضوا واحدا**هو منك سهمٌ، وهو مني مقتلُ

لو ألقتْ إليَّ الفصحاءُ بالمقاليد، وأقرَّ لي البحتريُّ وعبدُ الحميد، والجاحظُ وابنُ العميد، ما توصَّلتُ إلى الكشف عن أمرِ “الحبِّ”، أو أن أشرح جنسَه وأنواعَه، أو أُبيْنَ خاصّه ومُشاعَه، آلعينُ أوقعتِ القلبَ وأوردتْه المهالكَ، وصيّرتْه مملوكًا بعد أن كان ملكًا، وأسلمتْه ألى نوافثِ سحرِ هاتيك الجفونِ؟ فعلامَ ترميه بالهوان وقد وفّرتْ له حظَّه من مكابدة نار الهوى ووجْدِ الجوى؟! فأيُّ قلبٍ لا يميل بعد تلك النظرة إلى أخلاقٍ ألطفَ من مَرِّ النَّسيم؟! وأي كبد لا يظمأ عند ريقٍ مزاجُه من تسنيم؟! وأي عقل لا يستجيب طوعا لحبائل تلك الفتنةِ بنظرةٍ لو لم تكن لانقلبَ إلى صاحبه ملكًا سالمًا؟! وكأن الفؤاد لعظيم ما أجرمت العينُ، وقلبت نعيمَه جحيما، وصيّرت مخضرَّه هشيما، مِن مقاساة تلك الأهوال والأهواء، وردَّتْه مجنونا يكلِّم الكواكبَ والأنواء، يعاقبُها بكثرة الدمع وإن تبدَّلَ دما، ويعذِّبُها بطول السهر وعدمِ منالِ المنامِ وإن عالجَت فراقَه ووجدتْ. ولله در القائل:

أعينيّ كُفَّا عن فؤادي؛ فإنه**مِن البغي سعيُ اثنين في قتلِ واحد.

 أم القلبُ أمرَها بالنظر إذ نزلت به ما لا يملكُ لهواها صدّا، وعاد شأنُه الرغبةُ بعد أن كان إعراضًا وزهدا، فأجابته ألى ما أراد طوعا أو كرها؟! أوليس يقول البحتريُّ:

أُعطيتْ بسطةً على الناسِ حتى**هي صنفٌ والحسنُ في الناسِ صنفُ؟

فصارت من أمره تكره النظر إلّا إلى بستان عينيها الذي تزخرفَ وتزيّنَ، وورد خدِّها الذي فاق كلَّ موصوف، وجداول شعرها المنساب كالأراقم، وتُلبِّي نداءَ جفون صدقتْ ما وصفتْ، ودعتْ إلى عيشة راقتْ وَصفتْ، ووجهها المليح الذي أقمرَ قمر الدجى، وأخجل شمس الضحى، فكأنها تعاقبُه بمسامرةِ الأحزان والفكرة، وأن أضعفتْ صبرَه، وضاعفتْ كربَه، وأوقعته في مهالك الوجد ومهامه الحب التي لا يقدر على أهوالها إلا الرجال، فأُلقيَ القلب في مصايدِ الوسواس، وذهب في مناكب الهوى فهوى، واتخذ من شمائل الغرام قيدا، وسلك في شعابه مذهبا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى