المزامير 2

د. خضر محجز | فلسطين

حين وقف ابن آوى، والتفت وراءه، ورأى طابور الكلاب متحفزاً، وقد ارتفعت أصواته بالنباح، نسي نفسه وماضيه، وأيقن أنه منصور علي أولياء الله. لذلك أدار رأسه باتجاه مؤخرته، ولعق استه بقوة ليزداد حنقاً، ثم مضى يهاجمني ويختلق الأكاذيب.

الله ربي وسندي وسيدي. الله ملاذي وحصني وملجئي. الله مولاي وناصري. في كنفه أنام، وفي ملجئه أحتمي، وبرحمته أستغيث، وبقوته أستعين. الله قبلتي في حلي وترحالي، في سلمي وحربي، في محياي ومماتي، في حبي وكراهيتي.

يا رب، كلاب الأرض تشحذ أسنانها لتهجم علي، ولكنني أعرف أنك ستهشم أسنانها، وستردها خائبة تعوي.

يا رب، المنافقون وتجار الولاءات يرثون التجارة البائرة عن آبائهم، ولكنهم لا محالة سيلحقون بهم في درك اللعنات.

الله ربي، فهل أخاف الأرباب المتفرقين، وهم بعد قليل يسلمون كلابهم إلى شرطة البلدية!. يا لله، كم كان شكيب^ سيطخ من الكلاب لو كان حياً!. لكن شكيباً مات، والكلاب تكاثرت.. فليرحم الله شكيباً.. واللعنة على كل الكلاب.

الله مولاي، فهل أخشى الموالي الذين كانوا قبل قليل يرتعدون من الخوف، كلما طرق بابهم طارق!.

الله هو الغني، فهل أطلب ممن يجمعون الصدقات، باسم الشهداء، أن يسرقوا لي القليل، مقابل تقديم خدمات رخيصة لهم!.

الله بيتي الذي إليه ألجأ، فهل أعمد إلى الغلول لأشتري بيتاً أغادره بعد قليل!.

أنا بالله، وكل شيء في له، ولا شيء لي أبداً. فاللهم، من ملك من أموال المساكين شيئاً، فكله إليه، واجعله نصيره وزاده في الدنيا والآخرة. واجعله يحمله على ظهره لنراه..

اقتربت الستون، يا ابن آوى، اقتربت الستون. فماذا بقي لك بعد الستين إلا انتظار العذاب.. أبشرك بالنار واللعنة. كما بشرك الله بهذا الوجه القاتم، الذي لا تزال تراه في المرآة، ولا يزال يعذبك. فالطمه يا ابن آوى، الطمه. فلطالما فعلت ذلك، ولطالما ضحك منك الرؤساء.

اهرش استك يا ابن آوى، اهرش استك، فأنت لا تستطيع غير ذلك، إلا أن تهرش استك. فكفاك تطلعاً، وانشغل بهرش استك.

 يا ربي، أنت سندي وموئلي، الذي به أحب، وله أعمل، وفيه أبغض، وبسيفه أحارب، وبنوره أهتدي. لا أعرف لنفسي حولاً ولا قوة إلا بحولك وقوتك. ولا أتكل على ذكائي وعلمي، وأنا أعلم أنني ما أوتيت منهما إلا أقل القليل. من أجل هذا يخشاني أعدائي، ويداهنني المنافقون، وتهرُّ لي الكلاب أذنابها حين أمر.

لا تنفعك الكلاب يا ابن آوى، لا تنفعك الكلاب، فهي تهرُّ للقوي وللضعيف: تهرُّ للقوي خوفاً من الحاضر، وتهرُّ للضعيف خوفاً من الاحتمال. فماذا يفيدك يا ابن آوى هؤلاء، وهم على هذه الدرجة من الهوان!. ألم تفكر أنهم لو كانوا ينفعون أحداً لنفعوا أنفسهم!. ألم تفكر أنهم يأتونني ليشوا لي بما وشوا به إليك!.

ستموت غداً يا ابن آوى، وستطل من قبرك المظلم على أذنابهم كيف ستستطيل، وعلى ألسنتهم كيف ستندلع، وعلى أكفهم كيف ستتسول. وأنت البضاعة التي سيبيعونها، يا ابن آوى المسكين، أنت البضاعة. فيا لك من بضاعة مزجاة!. لو كنت تعقل يا ابن آوى، لو كنت تعقل!.

أحبك يا رب، وأحب من يحبك. وأحتقرك يا ابن آوى، وأحتقر من يعرفك فلا يحتقرك. أحبك يا رب، لأنك أنت الذي جعل أهل ابن آوى يكذبونه، وأنت الذي جعل ابن آوى يعلم ذلك، فيزداد عذاباً، وأنت الذي جعل الناس يعلمون ذلك، فيشيعونه ويتألم.

أنت تعلم يا ابن آوى، أن جيرانك يحذرون أطفالهم من المرور من أمام بيتكم، وأن نسوة الحي يدرن بعيداً، إذا ما رأينك واقفاً في الشارع، هرباً من نظراتك السيئة، وعينيك الصفراوين، وقلبك الممتلئ بالشرور. وحتى رغباتك الرخيصة ـ التي حملتها معك إلى جحرك الجديد ـ لم تخف عن أعين العارفين، ولم تقبلها النسوة المتقززات. ألم تر أن طوب الأرض يشي بك يا ابن آوى، ألم تر ذلك!. فإن كنت لم تره فاعلمه.

حتى بيوت الله يا ابن آوى ترفض أن تستقبلك!. فهل تنوي اقتحامها يا ابن آوى، لتملأها بنجاساتك؟. لا أستبعد منك الصغارات يا ابن آوى، لا أستبعد منك الصغارات، وقد درجتَ عليها، وتعودتْ على مصاحبتك.

أحمدك يا رب وأسبح بحمدك. الحيوانات في البرية، والطير في الهواء، والسمك في البحر، والوحوش في الفلاة، والحجارة في الوديان، كل ذلك يحبك ويسبح بحمدك. فسبحانك ما أكرمك!. كشفت هذا البغيض أمام الأعين فكرهته، وأمام القلوب فاحتقرته، ومنعت الأيدي أن تعطيه شيئاً من ثقتها، فسقط في كوة الخزي. ومع ذلك، فأنت وحدك، يا الله، الذي ألهمته، برغم هذا العجز، أن يكون متكبراً؛ وبرغم هذا الضعف، أن يكون معتدياً؛ وبرغم هذه النذالة، أن يتقدم ليشغل مناصب من هم أحق بها منه. فسبحانك، لا يكشف الحقائق إلا أنت، ولا يظهر الدخائل على الوجوه سواك!.

الحب يظهر يا ابن آوى على الوجه، وكذلك البغض يظهر. ألم تكفك هذه الخيبة المدوية، حتى ذهبت تصارع الله على النتائج، وتلهث وراء اجتماعات لم تُدع لها، رغم كل ما أصابك من بطش الله وتحذيراته؟!. أتدري لماذا فعلت ذلك يا ابن آوى الغضبان؟. لأنك لا تؤمن إلا بشطارتك، ولا تصدق إلا نفسك، ولا تحب إلا ما يقودها إلى الجحيم!. فماذا فعلت بك الأموال الحرام، وماذا فعلت بها؟. قل لي بربك، فأنا لا أراك تشبع، ولا أرى عينيك تقتنعان!. أأنت شاطر هكذا يا ابن آوى المسكين!. أتصارع مقت الله، فهو صارعك لا محالة، أم تصارع سخرية رؤسائك المتهربين منك على طول الخط!.

اللهم إني أسألك، بكل اسم سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو ادخرته في علم الغيب عندك، أن تبرئ ابن آوى ــ المعلوم لك جيداً ــ من حولك وقوتك، وأن تكله إلى حوله وقوته. فهو ما يزال رغم كل هذا البطش منك، يظن نفسه قادراً على الإفلات من حبال مكرك العظيم.

اللهم هشم فكه كما هشمت رجليه، وشل يديه كما شللت أداة رجولته، والعنه في الملأ الأعلى كما لعنته بين صالحي الأرض، واملأ قلبه غلاً لا يقدر على تنفيسه فيحرقه، وارزقه الغرور ليعميه فلا يرى في كل قبيح من أفعاله إلا جميلاً، واهده إلى الكفر كما هديت فرعون وهامان وجنودهما، فلا تمته إلا أعمى، كما عاش في هذه أعمى وأضل سبيلا.

اللهم لا ترزقه إلا الحرام، ولا تملأ بطنه إلا من السحت، ولا تجعله يرتوي من الماء البارد أبداً.

يكفيك الحميم والغساق يا ابن آوى يكفيك الحميم.

اللهم اجعله ينازعك كبرياءك، ويستثير غضبك، ويستنزل لعناتك. وأغرقه في بصاق من يتولاهم فلا ينفعونه، ومن يستنصر بهم فلا ينصرونه، واجعله من جنود إبليس، حتى لا يكون له سلطان على أي من عبادك المخلصين.

اللهم أنت قتلته في الأولى فاقتله في الآخرة، وأنت لعنته في الدنيا فالعنه في الآخرة، وأنت أخزيته في الدنيا فأخزه في الآخرة.

اللهم لا تدع كبيرة إلا ورزقته اقترافها،

ولا تدع قيئاً إلا ورزقته الولوغ فيه،

ولا تدع وزارة إلا ورزقته التطلع إليها والحرمان منها.

اللهم أطل عمره، وأعم بصيرته، وعرضه للفتن، ولا ترزقه التوبة قبل الموت أبداً. بل ارزقه موت الفجأة، واعقل لسانه عن الشهادة عند الموت، فيستحق العذاب الأبدي، واترك أمواله نهباً لمن يأكلها ويلعنه، ويشتري له بها غضباً إضافياً على الغضب الذي به مات.

اللهم كما ألهمته عدم الاستفادة من إشاراتك وتنبيهاتك، فألهمه الثقة بشطارته، وأعطه من الحيل ما يكون به قادراً على الانخداع عن نفسه، حتى يوردها موارد الجحيم.

اللهم لا تجعل التينيا تغادره أبداً، ولا تجعله يغادرها، واجعلها حظه ونصيبه، في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

أنت لا زلت تذكر، يا ابن آوى، الطريقة البائسة التي بها ظهرتَ إلى الوجود. أنت لا زلت تذكر ما الذي أخرجك من جحرك، وجعلك تستطيع أن تمارس ضراطك على الملأ، وأمام مكبرات الصوت. أنت تذكر، وأنا أذكر، والكل يذكرون. فاللهم كما صيرته مزقة قذرة، يستخدمها الكبار لإزالة الأوساخ من طريقهم، فاجعل ذلك مهنته الدائمة، وألهمه أن يكره أبناءه وزوجته وأقاربه وكل من حوله.

اللهم اجعل الكراهية زاده الذي لا يشبعه سواه، واجعل الحقد ماءه الذي لا يرتوي من غيره. واجعله لا يثق بك، ولا يعتمد عليك، ولا يخافك، ولا يحبك، ولا يرجوك.

ارزقه اليأس من رحمتك، يا رب الأرباب، فأنت تعلم أنه قد استخدم أدوات اليأس، من يوم أن ارتكب جريمته، التي يخجل من تذكير نفسه بها، حتى  في الغرفة المغلقة.

اللهم ألهمه السخرية من أوليائك، وخوف أعدائك، ومحبة الكلاب، ونفاق الضباب، ومكر الثعالب، وكراهية المساكين.

غادرنا يا ابن آوى إلى لعنة الله. فلا حاجة لنا بك. غادرنا يا ابن آوى، إلى الجحيم. أم تراك ستحمل كلامي هذا إلى رؤسائك، مادة تسولٍ تطلب بها البقاء نكاية وحقداً!. فلو فعلت يا ابن آوى ذلك، فلسوف أعلم. أنت تذكر كيف أفشلت محاولتك السابقة يا ابن آوى، وأنت تعرف أنني خيالاتك السوداء، التي تأتيك في الأحلام، يا ابن آوى، وأنني ذنوبك التي لا زلت منها تهرب. لكن أين المفر وقد اقتربت الستون. وأنت شيخ فانٍ، وكسير ضعيف، وتحمل كل هذه الأمراض النفسية والعصبية!.

عندي لك اقتراح يريحك ويريح منك يا ابن آوى، لدي اقتراح: ما رأيك في العباسية!. هي على يسارك عند الدخول. فما رأيك؟.

^شكيب: موظف في بلدية غزة، في زمن الإدارة المصرية، كان مكلفاً بإعدام الكلاب الضالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى