ما الفرق بين الأفعال (جاء وحضر وأتى) في القرآن الكريم؟
ماجد الدجاني | فلسطين
Painting by Antonio Guzman Capel
فعل حضر والحضور في اللغة أولاً يعني الوجود وليس معناه بالضرورة المجيء إلى الشيء (يقال كنت حاضراً إذ كلّمه فلان بمعنى شاهد وموجود وهو نقيض الغياب) ويقال كنت حاضراً مجلسهم، وكنت حاضراً في السوق أي كنت موجوداً فيها.
أما المجيء فهو الإنتقال من مكان إلى مكان، فالحضور إذن غير المجيء ولهذا نقول الله حاضر في كل مكان دليل وجوده في كل مكان. وفي القرآن يقول تعالى (فإذا جاء وعد ربي جعله دكّاء) سورة الكهف بمعنى لم يكن موجوداً وإنما جاء الأمر. وكذلك قوله تعالى (فإذا جاء أمرنا وفار التنور) سورة هود. إذن الحضور معناه الشهود ، والمجيء معناه الإنتقال من مكان إلى مكان.
ما الفرق الآن من الناحية البيانية بين قوله تعالى (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً. سورة النساء {18}) وفي سورة المائدة: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ {106}) وقوله تعالى في سورة البقرة (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {133}) وفي سورة المؤمنون (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ {99}) وفي سورة الأنعام (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ {61})
القرآن الكريم له خصوصيات في التعبير فهو يستعمل كلمة (بررة) للملائكة وكلمة (أبرار) للمؤمنين. وفي كلمة حضر وجاء لكل منها خصوصية أيضاً. حضور الموت يُستعمل في القرآن الكريم في الأحكام والوصايا كما في آية سورة البقرة وكأن الموت هو من جملة الشهود فالقرآن هنا لا يتحدث عن الموت نفسه أو أحوال الناس في الموت فالكلام هو في الأحكام والوصايا (إن ترك خيراً الوصية) (ووصية يعقوب لأبنائه بعبادة الله الواحد).
أما مجيء الموت في القرآن فيستعمل في الكلام عن الموت نفسه أو أحوال الناس في الموت كما في آية سورة المؤمنون يريد هذا الذي جاءه الموت أن يرجع ليعمل صالحاً في الدنيا فالكلام إذن يتعلق بالموت نفسه وأحوال الشخص الذي يموت. وكذلك في آية سورة الأنعام. ويستعمل فعل (جاء) مع غير كلمة (الموت) أيضاً كالأجل (فإذا جاء أجلهم) وسكرة الموت (وجاءت سكرة الموت) ولا يستعمل هنا (حضر الموت) لأن كما أسلفنا (حضر الموت) تستعمل للكلام عن أحكام ووصايا بوجود الموت حاضراً مع الشهود أما جاء فيستعمل مع فعل الموت إذا كان المراد الكلام عن الموت وأحوال الشخص في الموت.
القرآن الكريم يستعمل أتى لما هو أيسر من جاء، يعني المجيء فيه صعوبة بالنّسبة لأتى، ولذلك يكاد يكون هذا طابع عام في القرآن الكريم ولذلك حتّى فعل مضارع ل(جاء) لم يأت في القرآن ولا فعل أمر ولا اسم فاعل. “فأتت به قومها تحمله، قالوا يا مريم لقد جئتِ شيئا فريّا”.
الحمل سهل، لكنّ ما جاءت به أمر عظيم!! يعني امرأة ليست متزوّجة تحمل طفلاً، فهذا شيء عظيم. وهي كانت خائفة من هذا ، وجلة كيف ستواجه قومها، لذلك أوحي إليها “قولي إنّي نذرت للرّحمن صوما ” لأنّ المواجهة ستكون صعبة عليها.
مثلا في قوله تعالى: ” وقالوا اتّخذ الرّحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدّاً “:جئتم وليس أتيتم، : ” تكاد السّماوات يتفطّرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّاً ” وقوله تعالى: ” فإذا جاءت الصّاخّة ” >> جاءت. ” فإذا جاءت الطّامّة الكبرى ” >> أيضاً جاءت. ” هل أتاك حديث الغاشية “. أتاك ، لم يقل أتتك الغاشية ، بل حديث الغاشية، حديث أمر سهل إذا ما قورن بالصّاخّة والطّامّة. الصّاخّة جاءت، الطّامّة جاءت ، لكن هنا الحديث:(أتى) .
كذلك قوله تعالى: ” إذا جاء نصر الله والفتح ” النّصر شيء عظيم كيف يأتي؟ حروب ومعارك لا يأت هكذا بسهولة.
وقوله تعالى: ” هل أتى على الإنسان حين من الدّهر لم يكن شيئاً مذكوراً” . قسم قال، لم يكن شيئاً لا مذكوراً ولا غير مذكور، وقسم قال كان شيئاً ولم يكن مذكوراً، أي كان طيناً لم تنفخ به الرّوح، وفي الحالتين لا يشعر بمرور الدّهر عليه، لذلك قال أتى، فهو أتى دون أن يشعر به !!
حتّى في قوله تعالى: ” أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عمّا يشركون ” وقوله تعالى: ” فإذا جاء أمر الله قضي بالحقّ وخسر هنالك المبطلون” . هناك في الآية الأولى لم يأتِ بعد، إنّما صار قريباً ، يعني حصل هو ؟ فلا تستعجلوه !يعني هو قرب، إذن هو لم يصل إلينا بعد ، وإنّما هو في الطّريق. لكن في الآية الثّانية فإذا جاء أمر الله قضي بالحقّ ، هنا الأمر واقع، لأنّ فيه قضاء وخسران وما إلى ذلك، فأيّ المجيئين أثقل ؟ الثّاني (الآية الثّانية) بكلّ تأكيد . فالّذي لم يأتِ بعد معه الإتيان أيسر وأسهل، ولماّ حصل فعلا وحصل ما به من قضاء وخسران قال جاء .
إذن الإتيان والمجيء بمعنى ، لكنّ الإتيان فيه سهولة ويسر، أمّا المجيء فيه صعوبة وشدّة. لذلك السّيل المارّ على وجهه يقال له أَتِـيّ ، السّيل المارّ هكذا من دون حوادث. و ” حتّى إذا أتوا على واد النّمل قالت نملة ” : واد النّمل ، ليس حرباً . و ” وجاءوا أباهم عشاء يبكون “: أمر ثقيل فيه قتل ! إذن هنالك فروق دلاليّة بين جميع كلمات اللّغة العربيّة سواء علمناها أو لم نعلم ، وهذا قول كثير من علماء اللّغة.