كيف تختار صديقك.. الوسائل والمحاذير والنتائج
محمد أسامة | كاتب – الولايات المتحدة الأمريكية
الصَّداقة في حياة الإنسان هي كنزه ووعاؤه، هي نبضه وضمان وجوده، وهي نبعٌ صافٍ يرتوي منه، ويحتاج إليه، زُخرٌ للإنسان وقت حاجته، وسبيلٌ حقيقيٌّ لتحقيق سعادته، وهي نورٌ له على دربه، ووسيلةٌ لكسب حياته وخبرته، فكلُّ شخصٍ منا يحتاج إلى من يعينه وقت الشدائد، ويكون ظهرَه حال المصاعب، وينصحه إذا أخطأ، ويشجِّعُه إذا أصاب، وينيرُ له طريقه، ويمهِّدُ له سبيله.
فلا يغرَّنَّك من ينصحك بالوحدة، ويدفعك إلى الانفراد والعزلة، فإنَّ الوحدةَ قاتلةٌ للنَّفس، معجِّلةٌ بالعمر، لا تنفع صاحبها، ولا تُنجد من التجأ إليها، فالوحدة لا تصلح للإنسان إلا في حالاتٍ قليلةٍ نادرةٍ، وظروفٍ طفيفةٍ غامضةٍ، حينما يحتاج المرءُ إلى أن يعيد حساباته بمراجعة نفسه، والاختلاء إلى ربه، فالعزلة لا تصلح للطَّبيب الذي يحتاج إليه المرضى، ولا العالم الذي يحتاج إليه العامة، ولا القاضي الذي يحتاج إلى نزاهته العدل، ولا الحاكم الذي يحتاج إلى عدالته الشَّعب، ولا حتَّى العمَّال البسطاء الذين يسهرون على خدمةِ الناس وقضاء حوائجهم، والنَّطرِ في طلباتهم والعمل على راحتهم، فمن للمعتزل ينصحه إذا أخطأ، ومن يعلِّمه إذا جَهِل.
فالصداقة للعبد المؤمن هي له كالصحَّةِ الجيِّدة، والحياة الخيِّـرَةِ، وهي سبيله حتى يحيا في نفوسِ الآخرين، وهي غَناءُ الإنسان الحقيقي الذي لا يفنى، وثروته التي لا تنتهي، فالمرءُ يكون بخليله، والرابح من كان راقيًا في عيون صديقه، ولا خسارةَ أعظمَ، ولا أمرَّ وأظلم، مـمَّن كان في دنياه وحيدًا بلا صديقٍ حميمٍ، منفردًا بلا رفيقٍ مخلصٍ كريم. والصداقة الصادقة الباقية هي كالشجرة التي تُقْطَفُ ثمارُها في كل لحظة، وقدسٌ في القلب لا غِنىً عنها برهةً.
ولا خيرَ في الدنيا يعلو على أخٍ لك تواجد معك في السرَّاء، ولم يتخلَّ عنك في الضرَّاء، وقد عَرَفْتَ أخلاقه ومواهبه، وخبرْتَ شيمه ومذاهبه، وقدَّم لك نصحه، ونصرك بالحق إن كنت ظالـمًـا أم مظلومًا، فأعانك في الثانية، وكفَّ يدك في الأولى، فهو شقيق روحك، وتوأم عقلك، ونبراس حياتك، ونورٌ يتلألأ لك يبدِّدُ ظلام ليلك.
ولا بأس من الاستكثار من الأصدقاء، والاستزادة من الأصحاب، إذ أنه لابدَّ للمرء من المؤانسة والرفقة، والمؤازرة والصُّحبة، فإنَّهم يكونون زُخرًا وقت الضِّيق، وعونًا وقت الكرب، فإن أخلصوا تراهم يحاجُّون عنك ويرفعون قدرك، ويعلون منزلتك وينشرون محاسِنك، بنصائحهم تزيد خبراتك، وتتعدَّدُ تجاربك، فلا يُضعفْ من عزيمتك ما قد تراه أحيانًا من خيانة الأخ وغدر الصَّديق، ومن مكر الدنيء وغشِّ الرفيق، فإنَّ الدُّنيا خليطٌ من الخير والشرور، والصِّدق والفجور، ولا ينبغي أن يَصرفنا بعض من نلقاه في حياتنا من الغدر، عمَّا نراه في أحايينَ كثيرة من الإخلاص والخير.
ولكن عليك دومًا التأنُّق في الاختيار، والتَّدقيق في الاختبار، فتيمِّم وجهك لمن عُرِفَ قبلك، وكان مخلصًا مع غيرك، لاسيَّما إن حَسُنَ خلقه، وصحَّ في العلن دينه، وانصرفْ عمَّن ساء خلقه، وغلُظَ طبعه، وجهلَ في تدبيره، وشاع في الناس ضيق صدره، ودناءة صفته، مثله كنافخِ الكير الذي إما أن يحرقَ ثيابك، ويعدِّدَ مساوئك، فتجدَ منه ريـحًـا خبيثة، ونفسًا دنئية.
وعليك باختيار من تمَّ دينه، وصلح في صلته بربه، فاعتنى بصلاته، وأدى زكاته ولم يقصِّر بصيامه، فلن يكون مخلصًا لك من كان مقصِّرًا في دينه، منصرفًا عن ربِّه، وإن ظهر لك خلاف هذا، فإنَّ المرض يظلُّ متأصِّلاً فيه، مختبئًا بين أعماقه، وانظرْ من يحفظك في غيبتك، ويصونك في سرِّك، ولا يعاديك من وراء ظهرك، ولا من يعاملك بوجه، وينظر إليك بوجه.
والصديق الحقيقي تميِّزُه حينما تختبره، وتدركه حينما تمتحنه، ستجده صادقًا إذا اختلف معك، شهمًا وإن كان عليك، لا تجرُّه عداوته أو يدفعه اختلافه معك، إلى أن يتخلَّى عن أصله، وينأى عن طبعه، ويتنازل عن أخلاقه، فانصرفْ عمَّن كان جميلاً في صُحبته، قبيحًا في عداوته، ومن كان وقت هدوئه كريمًا، ووقت غضبه لئيمًا، واحذرْ الصديق الذي إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمِنَ خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وانتبه ممَّن كان ملولاً عجولاً، لجوجًا حسودًا، غليظًا حقودًا، سيِّءُ الظنِّ غضوبًا.
وانصرفْ عمَّن كان يحسدك في داخله، يحقِدُ عليك من أعماقه، واعلمْ أنَّه وإن توارى فإن سرائرَ نفسه حتمًا ستخرج إلى جوارحه، وتُفتضح على لسانه، حينما يخونك في غيبتك، ويتكلَّمُ بالسُّوء عن سيرتك، واجعلِ الأخلاق لك إمامًا ودليلًا، ودربًا وطريقًا، إذا ما أردت اختيار صديقٍ مخلصٍ، ورفيقٍ مؤنسٍ.
وإذا أردت الخير فلا تصاحبْ إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي، وابتغِ من كان توَّابًا صدوقًا، وفيًّا رقيقًا، فإنَّ الصَّديقَ لا يكون صديقًا إلا إذا حفظك في غيبتك، وأعانك في نكبتك، وصدَقَكَ في صُحبتك، والصديق الحقيقي تعرفه وقت المحنة، وتميِّزُه عند الضيق، ويكونُ لك نعم الرفيق في ذلك الطريق.
وإذا ما لاح أمام عينيك من أحببت صداقته، ورغبتَ صحبته، وأردتَ أن تحفظَ صلتك به، وتصونَ عهدك معه، فعليك أن تجنيَ ثمار صداقته، وتقدِّرَ ثمن معرفته، فاحفظه كما تحفظ ولدك، وارْعَهُ كما ترعى أهلك، واحفظْ غيبته، وادفن سرَّه، ولا تُكثر من إساءتك له، وتُفرطُ في غضبك عليه، فكثرةُ الصِّدام تُميت ما في القلب من محبَّةٍ، وتقتل ما بين الأصحاب من رفقة، وانصرْهُ في العلن وانصحْهُ في الخفاء، واحفظ قدره، وأعلِ منزلته، وأشع بين الناس محاسنه، فإنَّك بذلك تربح قلبه، وتجني ثمارَ معرفته، واعلم أنَّ الخير الذي تبذله له، سيُردُّ لك ضعفُه، وستجني منه خيرَه.
وإن أردت أن تحفظه فلا تعاتبه في كل الأمور، وتخاصمه في كل خطئية، فاعف عن خطئه، وتجاوز عن سيئته، وإن عِبْتَ فيه خلقًا رضيت منه آخرًا، فإنَّ النَّقص طبعٌ في البشر، وصفةٌ في الخلق، لا يحيد عنها إنسان مهما بلغ قدرَه، ومهما علا إيمانه، وأعلمْ أنَّكُ تُخطئُ كما يخطئ، وتُسيء أحيانًا كما يُسيءُ، فتجاوزْ عن غيرك واعفْ عن آثامهم، وتجاوزْ عن خطاياهم، ما لم تكن آثامهم ترتقي إلى الكبائر، أو ممَّا نهى الله عنه من ذنوب كانت في عداد الفواحش، حتَّى تجدَ من يعفو عن سيئتك، ويتجاوز عن خطئيتك، فإنَّك لن تجد شخصًا كاملًا، ولا إنسانًا مقدَّسًا، فالكمال صفةٌ لم تتَّفِقْ إلا للأنبياءِ الذين أيَّدهم الله بنُصرته، واجتباهم واختارهم لرسالته، وكُنْ وقت غضبك من الذين ( إذا ما غضبوا هم يغفرون)
الإنسان الناجح إذًا من كان غنيًّا بأصدقائه، ومن أجاد انتقاء أصحابه، فالصحبة الصالحة عبادةٌ ساميةٌ، ومنزلةٌ راقيةٌ، وهديَّةٌ غاليةٌ، ونعمةٌ من الله عالية، ومن رافق الأخيار كان منهم، ومن اعتنى بصحبة الصالحين صار في عدادهم، ومن تخيَّر أخلقهم كان من بينهم، فإنَّما المرء من أصحابه، وتُعرف خلاله من معارفه وأصدقائه.