خلَجاتُ ذَاتٍ رَافِدَيْنيّةٍ
الأب يوسف جزراوي | العراق – أمستردام
أنا رَّجُلٌ مُتعَبٌ
بِدَاخِلَي وَطَنٌ يَبكِي..
أرْضَعَني دُمُوعه لَّبَنًا!
…
أنَا عراقيٌّ…
الفَرَحُ
أقَليَّة دَاخِل رُوحي!
وَالأمانُ
مَا كَانَ يومًا
أكْثَريَّة فِي وَطَني!
دارَ الزَّمانُ بِبَلدي
مليون دّورَة…
فَمَا فتَئ السَقوط
مِنْ حفرةٍ إِلَى حفرةٍ!
…
فِي غُربتي القَسرِيّة
أقفُ بَيْنَ نَخلتينِ…
فالأفَياء تستهويني
لأبحث عَنْ ظِّلِّي
المعَمّد بِمَاءِ الْفُرَاتِ!
…
أَنَا لَوْحٌ شِّعريٌ
مِنْ مَلحَمةِ كلكامش
مَا لوَّحتهُ نَيِّرانِ خمابابا
بَيْدَ أنّي بتُّ الغريبَ عَنّي
ما دامَ الوطنُ فِي مَحْبِسٍ!
……
أنَا كِتَابٌ
مِنْ مَكْتَبَاتِ المُتنبّي…
دبَّجتهُ أَنامِل
نَقْشت
أَوَّلى الحُرُوف فِي الحَجَرِ.
وأوْلَمَت الْكَلِمَة
طعامًا لبَني الَبشَر!
…
أنا مِنْ بلدٍ
عابرٌ للتّأريخ…
اِنطفأَت بَهْجَتهُ
فتشابَهَتِ الاِنتِصاراتُ وَ
اتجهْ مَكْسُور الخَاطِرِ
يقتفي أَثَرَ آثاره
فِي مُخَلَّفَاتِ الحُرُوبِ!!
فَلَاَ الآثارُ وِثْرَت مَتاحِ
وَلاَ الوَطَنُ استوثرَ مَخْدَ
…
أَنَا وردةٌ رافدِينيّةٌ
اِنْقَشَعَ الْمَاءُ عَنْهَا!!
والوردُ بِطبعِهِ
لَا يَبوح بِاحْتِيَاجِهِ …
لِذَا أرَاني كالجوري
أبٍىَ البَوحَ بِالعطشِ!
…….
أنَا شنشولٌ بغداديٌّ
أنتظرُ قِيَامَة بَعْدَ صلبٍ…
فالمصّلوبُ هُناكَ شناشيلاً
بَلْ بِلادًا بِأَكْمَلَهَا!!
…..
أنَا حَجَرٌ بابليٌ
مِنْ مسَلَّةِ حمورابي…
صَيَّرَتني الغُربةُ لوحًا….
فَاِقْتَادهُ النّورس إِلَى بَ
مَا عَادَتْ تَحْكُمُهُ القَ
…….
أنَا مِنْ أرضٍ
ذهبَت فِي مَهبِّ الحُرُوبِ..
مُنذُ فجرِ التَّارِيخِ
ماتَ فارِسها
فَتَشرَّدَ بَعْدَهُ الحُصان
وَمَازَالَتِ تنتظرُ فارِسًا لَ
…..
أنَا مِنْ بَلدٍ
اغْتِيلَ مُعلِّمو التّاريخ فِ
فَبَارَت أقلاَمُ الْمُؤَرِّخِ
……..
أنَا خيمةٌ
تُقِيمُ فِي العَرَاءِ…
لَمْ تقوَ الرَّيحُ
عَلَى كَسْرِ أوتادها!
مَنْحتني الغُربةُ
ضِيَافَة دائِمَة
لاِسْتَضِيفَ المُتعَبين
مِمَّنْ سُحَبَت
مِنْهُم إقامَات الوَطَن!!
…….
أنَا نَخْلةٌ رَافِدَيْنيّة
اِستَطالتْ بِها المَنَايَا
فَهَرْوَلَت مِنْ ضِفَّةِ شَطّ
بِطِينِ جُذُورِهَا…
إِلَى بِلاَدٍ
لَا شَطَّ فِيهَا!!
…..
أنَا أديبٌ بغداديٌّ مُغتَرِب
حَملَ بيدٍّ
مَشعَلَ الحرفِ …
وبِيدٍّ أُخْرَى قلمًا
يرتَفعُ كُلّ يَوْمٍ
شَجَرةً طَيِّبَةً مُثْمِرَةً
حَتَّى عانَقَ جِذْعُهَا السَّ
لَكِنَّ الحِجارةَ مَا كَفَّت
عَنْ ثِمارِها اليَانِعةِ
وَلاَ السَّعَفُ غَدَا بِساطَ رَ
……..
أنَا خَبّازُ النُّصوص..
يَعْجَنُ الحرفَ
وَيَخبِزُ الْكَلِمَة
فِي فُرنِ الأعماقِ..
ولَكِنْ مَا مِنْ يَوْمٍ
ساءل الفُرْنُ الفَرَّان
كَمْ قلمًا حطَّبتَ
لِتُوقد بِهِ النّار!
وَكَمْ اِستَنشَقتَ أدخِنَةً
مِنْ حَطَبِ الاِحْتِرَاقِ!!
……
أنَا كَاتِبُ اللّيْلِ
أتامّلُ بِصُحْبَةِ القلمِ
قَمَرًا مُنتشيًا بِلَيْلِهِ…
ينامُ ثَمِلاً بَينَ النّجومِ!
وَغَالبًا مَا كُنتُ مُسَهَّدًا
فَأتركُ اللّيْل يَضْطَجَع
وحيدًا عَلَى وِسادتي المحشيّ
بِأحَلامٍ مُعبَّقة بِالرّ
لَكِنْ ذَاتَ مَسَاءٍ
غالبني النُّعَاس!
فكتبتُ عَلَى الوِسادةِ
اسم موطني ونمتُ..
فنامَ العِراق أيضًا
عَلى وِسادةِ قَلْبِي
وكأنّنا لَمْ ننمْ مِنْ قَبْل!!
….
فِي الهزيعِ الأخيرِ مِنْ الحلمِ
رأيتُ فارِسًا عراقيًا أصيلاً
يقفُ عَلى سَّفْحِ جبلٍ…
يَتلو عَلَى مَسَامِعنا
مَوْعِظَة التطّويبات..
ثُمَّ سَجدَ ركْعَتين
وصَلَى القِبلَتين
ليقرأ بعدها مزامير داؤد…
وَمَا فتئ أن يباركَ لَنَا
خُبْزة وسمكتين
مِنْ أرضِ الرّافدينِ!!
…….
أنَا راعٍ
مِنْ أوَرِ الْكَلْدَانِيِّينَ
اتتبَّعُ نَجْمَةٍ بابِليّةٍ
تُومَضُ في سَماءِ العِراق!
سأظلُّ أمًسِد شَعَرها
حَتَّى يُطِلّ الفجر عَلَيْنَا!
فغدًا ستَشْرُق الشَّمْس
وَتكْتَسي المساحات المُجْدِبِة
بِالعشبِ الأخضرِ..
…….
أَنَا مِنْ وطنٍ
لَا ينامُ فِي أمَانِ اللَّهِ
وَلَا يحلم!!
لَدَيْه فِي مَطْحَنةِ الخَيَ
الكَثير مِنْ الأَماني…
بَعْضَهَا مَقْصُوصة الجَناح!
وَبَعْضَهَا الآخر
تَسِيرُ بِقدمٍ واحدةٍ!!
ولَكِنْ…
إن كَانَت الشَمَسُ
فِي بِلادي عَِقيمةً
والَّليل عَاقِرًا….
غَيرَ أنَّ حلمًا
أراهُ كنُدْفةِ ثلجٍ
لَنْ أدَعَ هَذِه الْمَرَّة
يَدُ الهاونِ
تَطْحَنُ بِذُوره!
….
لَقَد صَحوتُ لِلتَّوِّ
وَلَا يَزَالُ فِي الحَلمِ بَ
فَبَعْضُ الأحلامِ
لَا تَكْتَفِي بِوَقْتِ نَوْمٍ.
وَلَا تُختصر بِجَرّةِ قلمٍ!!