نَدِيـــمُ الصَّمت .. قصة قصيرة
الأديب السُّوري موسى رَحُوم عبَّاس
رُبَّما كان يستحقُّ جاسم العلَّاوي الوصفَ الذي أطلقه عليه أستاذ التَّشريح في كُلِّيَّة الطبِّ في جامعة حلب، وهو ANTI- SOCIAL ) ) والآنتي سوشل هو عدو المجتمع أو الكاره للاختلاط بالآخرين، وذلك بعد طلباته المتكررة بالانتقال من مجموعة إلى أخرى في المواد العملية، أما سكوته على وصفه بعدو المجتمع فهو استمرار لحياته الصَّامتة على القهر، قهر زوج أمِّه أي عمِّه الذي أُجْبِرَ على الزَّواج من زوجة أخيه الذي غيَّبه المعتقل من الثمانينيات، وكأنَّه حفنة ملح ذرَّها مستعجلٌ في بئر عميقة! وقهر رفضه حتى من تلك الطَّالبة البدينة التي لا تكف عن الأكل طوال اليوم، وقهر التَّأخر الدَّائم في مصروفه الشَّهري القليل، لم يستطع الدفاع عن نفسه بوجه أستاذه وزملائه في المشرحة، كان يريد أن يقول له، أنَّه طلب نقله عن المجموعة الرابعة لأنَّ فيها مُتنمِّرا وكاتب تقارير خطيرا، ومُخْبِرا لدى أكثر من جهة، والمجموعة السَّادسة لأنَّ سيرين الطالبة التي تغيب عن معظم الجلسات؛ وتنال أعلى الدرجات لأسباب معلومة مجهولة، والمجموعة التاسعة لأنَّ ابن الأستاذ المدلل الذي دخل الكلية بصفة أبيه الأكاديمية لا غير، ولا يستحق القبول حتى بمعهد التمريض، يهدِّد أيَّ طالب لا يقوم بكتابة تقارير التَّشريح بدلا عنه! لكنه لم يقل كلَّ ذلك، يريد أن يصل إلى مرتبة الدكتور جاسم العلاوي، وحسب، وهاهو ذا يتسلَّم عمله الجديد في مكان بعيد جدا عن تلك الأحداث التي أصبحت ركاما في ذاكرة تكاد تحترق، تعلَّمَ لغةً جديدةً، وأسلوبًا مختلفا في العملٍ، أخبره مديره الألماني هانز (الأحمر) كما كان يسميه سِرًّا، أنه سيكون في القبو الثاني، مكتب 215، وتركه فاغرا فاه، ولديه عشرات الأسئلة عن هذا العمل، فكلُّ شيء مُدْرجٌ على النِّظام، ويستطيع معرفته بنفسه، في القبو الثاني أدراج كبيرة من الستانلس اللامع النظيف، الجو باردٌ جدا، يتناوب على العمل فيه عددٌ محدودٌ من الأطبَّاء والفنيين، أمَّا الجثث التي ترقد بسلام في هذه الأدراج فهي لعابرين، ينتظرون السَّيارة السَّوداء الكبيرة التي تأخذهم إلى مستقرِّهم النِّهائي، إذن عملي الجديد هو حراسة هؤلاء الأموات، أو ببساطة سأكون نديما لجثث!! مسيرة القهر والصَّمت من حلب إلى دورتموند ستستكمل!!
هأنت ذا تمارس صمتك في لعبة الحياة، مُتفرِّجا غالبا، ملعونا مطرودا من جَنَّة الفرح، تحاول أن تجد في هذه الأدراج ثغرا مبتسما، عينا لا تراقب هفواتك، أذنا لا تنقل هواجسك ورفضك للقهر إلى الجهات العليا، فلا تجد إلا الأرقام والبطاقات لأسماء لا تعني لك شيئا، ربما عاشوا حيواتهم تماما، عَبُّوا من نهر الحياة وعَلُّوا ما شاء لهم النَّهلُ والعلُّ، وربما لم يعانوا الفقد مثلك، والجوع مثلك، والخوف من المخبرين مثلك؛ لذلك هم هادئون في أدراجهم هذه، حقا تريد أنْ تغنِّي لهم أغاني قريتك في شرق البلاد، ذلك الشَّرق التَّعيس المُهْمَل! “تغني لها وهي طَرْشا”هذه عبارتي جدِّي يقولها همسًا، كأنَّه يُناجي نفسه، عندما لا يُجدي نصحُهُ لنا نفعًا، لنعيدَ أخطاءنا عشرات المرات، ونرتكب حماقاتنا مثلها، بعدها يلوذ بالصَّمت، نحن عائلة صامتة، تتوارثه جيلا عن جيل!
كان الدكتور جاسم العلاوي، يدخل على الملفَّات الخاصَّة بكلِّ ضيفٍ يحلُّ عليه، هكذا يسميهم بالضِّيوف، فهم عابرون، هادئون، مستكينون لنهاية حتمية، يضحك أحيانا عندما يجد في ملف أحدهم أنه يشبهه في وحدته ونفسه المنقبضة دومًا، وأحيانا يشعر بالحزن أو النُّفور أو … فهذا الضيف رقم 1970 كان جنديا في قوات التحالف في أفغانستان، قد يكون قاتلا، ربما كان مقهورا مثله، أخذوه مستغلين حاجته للعمل، وربما كان مرتزقا! وربما كان لايملك منزلا، أو مهاجرا هاربا من القتل أو الإخفاء …
منذ الصباح والمستشفى في حالة ذهول، فقد كان القبو الثَّاني مُغلق الأبواب، ولا أحد يُجِيبُ على الهاتف، والسَّيارة السَّوداء الطويلة تنتظر دون جدوى، وسائقها لا يخفي تبرمه، قرروا استعمال المفتاح الاحتياط، لم يجدوا أثرا للدكتور جاسم، وهو المناوب في تلك الليلة، اضطروا للرجوع لفيديوات النظام في السيرفر المركزي، كان الأمر مُدهشا، هذا هو الدكتور اللاجئ السُّوري يدخل في أحد الأدراج الكبيرة الباردة، يستلقي على ظهره بطمأنينة،وقد ربط بطاقة اسميَّة نظاميَّة في إبهام قدمه اليسرى، بعد أن خلع كلَّ ملابس العمل التي يرتديها، يسحب الدُّرْج بهدوء إلى نهايته، صوت المزلاج يُسْمَعُ بوضوحٍ شديدٍ، ثم يعود الصَّمتُ اللزجُ؛ لِيعمَّ المكانَ، بل المدينةَ كلَّها، صمتٌ أشدُّ وضوحًا، من ضجيج حلب نفسها!
الرِّياض
5/6/2021
التحية والاحترام لعالم الثقافة، وللأديب النبيل الدكتور ناصر أبو عون، لكم المحبة والأمنيات الطيبة.
يطالبني بعض الأصدقاء أن تكوني قصصي مبهجة، مفرحة، … أعدكم عندما يزور الفرح بلادي، سأكتب عنه، سأكتب!