العقل الجمعي وسياسة الجماهير
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
هذه المملكة المفتحة الأبواب، ملهبة وملهمة لهذا الصراع التاريخي بين عقول المصلحين (العلماء والمثقفين)، وعقول المنتفعين(السلطة والثروة) ــ وكلامهما صاحب عقل ــ وبرغم بساطتها وسذاجتها، إلا أنها في النهاية هي التي ترفع على عرشها أيا من الفريقين، وتمنح مفاتيح عزتها لمن بذل.. وهو صراع حتمي ممتد.. لا يسلم أحدهما الراية لصاحبه، ولا يتخلى عن دوره إلا بنهايته..
هذه العقول برغم بساطتها إلا أنها منوط بها تحديد مقادير، وتقرير مصائر؛ وإلا لما خطب ودها وجوه الساسة والقادة، وأعد لها العلماء هذا الكم من الدراسات الأكاديمية التاريخية من “علم النفسي التحليليوالاجتماعي والجماهيري”، ولما نوشدت للاصطفاف في ميادين الحروب، وطوابير التصويت والتهليل، والصراعات السياسية، والقضايات المجتمعية.. لكن شاءت الأقدار أن تبذل نفائس البسطاء ونفوسهم بثمن بخس، وتقدر سفاسف الوجهاء فوق قدرها..
كما أنها ــ عقول العوام ــ رهان رابح لمن يكون أبرع في الحيل، وأدهى في الخدع.. ولما سأل أحدهم الإمام على رضي الله عنه، هذا الملهم المصنوع على عين النبوة، قائلا: اختلف الناس عليك، واجتمعوا على أبي بكر وعمر؟ فقال: أبوبكر وعمر كانا واليان على مثلى، أما أنا فوال على مثلك!!
ومن هنا أيضا كان دعاة الإصلاح، وأصحاب الدعاوى الدينية والفكرية هم أكثر الناس عرضة للاضطهاد والإيذاء، والإقصاء؛ ينجلي هذا من خلال منظومة استباقية تاريخية بين الطرفين، حيث يضطلع الدعاة بمهام جسام عظام،يوقدون جذوة الفهم في العقول، وتعليم الجموع، وتوعية الرأي العام، والتخلص من ثقافة القطيع .. ربما لا يسعف القدرأن يجتنوا ثمار بعضما زرعوا، بل غالبا جناهم التضييق أوالتغييب، وقد كان خالص حظ الغزالي رحمه الله من العوام أن قال:
غزلت لكم غزلا دقيقا فلم أجد لغزلي نساجا فكسرت مغزلي
ولولا هذا لأُنصف (الحسين) في مروءته وشجاعته حين تمالأ عليه أهل الجور، وقد تخلى عنه الأتباع والهوام، وقد حذر منهم أن (قلوبهم معك، وسيوفهم مع بني أمية)، ولولاه لقاد (ابن الزبير) بورعه وشجاعته وفصاحته العالم بأسره، ولكن غلبت فصاحة سيف الحجاج وسياسته، صدق ابن الزبير وورعه، وكانت أصدق إنباء في ترويض الجماهير، وإخضاعها، كما قال (أبوتمام)، وصدق الإمام على رضي الله عنه حين فند سلوك العوام بقوله:”الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمم رعاع أتباع كل ناعق” .
وقد ألف (ميكافيللي) الإيطالي كتابه (الأمير) قبيل عصر النهضة الأوربية، ثم أصبح الكتاب (ملهما تنويريا) للحكام والساسة والأمراء والملوك إبان عصر النهضة وما بعدهافي الشرق والغرب، في سياسة الجماهير، وإدارة الممالك، لا يمكن لحاكم أو أمير أو سياسي أن يستغني عنه.. ومن أفكاره أن: “الغاية تبرر الوسيلة”، وأن “الدين ضروري لخدمة الحكومة، لا لخدمة الفضيلة، ولتمكين الحكومة من السيطرة على الجماهير..” وأن “الأمير من الأفضل أن يكون مهابا على أن يكون محبوبا”.
وفي هذا دلالة على أن الفكرة مهما دقت، أو بدت بسيطة، إلا أنها هي التي المحرك السلطة، وهي الملهمة لها شاءت أم أبت، لمسنا هذا في ما قدم (ماركسوانجلز) من الفكر الشيوعي الذي ألهب الثورة البلشفية التي تبنت إيدلوجياته حتى نافست به على قيادة العالم زمنا ليس بالقصير.. الفكرة هي العقل الذي يدير السلطة من طرف خفي.. الفكرة هي العقل، والسلطة هي السيف، ولكل منهما سلطانه الذي يخضع، ولا غنى لأحدهما عن الآخر.
يتكون هذا العقل الجمعي (المعد) في حالة من السكون والتشكل الوعيي، ثم يبدأ في التحرك في حالات الاستفزاز أو الاستنفارالجماهيري تجاه الحوادث والمواقف المصطنعة، أو التي تفرض نفسها، في حالة من الغضب الجماعي، أوالتأييد، والتشجيع ، ثم يتحول هذا (العقل الجمعي)ــ كما يقول (لوبون) ــ إلى موجات من ردود الأفعال المنفلتة، والواقعة تحت تأثير السلكوك الجمعي الهستيري.
ولا تنبت الأفكار المهجنة، ولا العقائد المنحرفة إلا وسط بيئة هشة من العقل الجمعي البسيط الساذج، فتتلقفها النفوس على المتسوى الفردي، ثم تسري بينها سريان النار في الهشيم، حتى تصبح عقيدة قد يموت المرء في ظلها، وينافح ، ويجاهد..
هذه العقول المشكلة على المدى في أطر من السذاجة والسطحية، القابلة للاستقطاب، والاستهواء، تتبع كل ناعق، وتلتقط كل ساقط، وتلتقم كل واردة فكرية دون تثبت أو تحقق، أشبه ما يكون بانجراف غثاء السيل، وزبد البحر، وكل منهما يذهب جفاء، لا يمكث منه شيئ في الأرض ينفع الناس.. وهذا العقل المنقاد المستسلم هو المخاض الحقيقي، والمستولد لأبواق الفكر وسفاسفها، والأرض الخصبة المهيئة لخروج شذاذ الفطرة كذلك، ومنحرفي العقائد(الإلحاديين، والمثليين، والعلمانيين، … ومن على شاكلتهم)، وكذلك هوام القادة والساسة، واستنطاق الرويبضة، وزبالة الفن وناعقيه..
وقد رأينا وسمعنا هذا الهوس الجماهيري لمطربين، ومغنينمنكرة أصواتهمكصوت الحمير، تردد كلمات أغانيهم الساقطة على ألسن الأطفال والشباب والرجال، وللأسف (الفتيات والنساء)، لم يقدمهم إلا هذا الهوس الجماهيري، وانحطاط الذوق العام المعدي “وربما تعدي الصحاح مبارك الجرب”، وصدق من قال “لكل زمان دولة ورجال”، أومن قال ” تعس الزمان فقدم العميان”.
ومن هنا فالمجتمعات ذات الخلفيات الثقافية العريضة عل مستوى النخبة ــ تختلف نسبتها من مجتمع لآخرـــ لا شك أكثر اتزانا، وأعمق وعيا، وكلما اتسع هامش حرية ممارسة النخبة لدورها التوعوي والتربوي في المجتمع، كلما كان المجتمع أقل عرضة للاستقطاب، أو الانجراف مع موجات العقل الجماهيري الموجه؛ ولذا يعمد المنتفعون دوما على (إقصاء أو استقطاب أو تغييب) هذه النخب لإضعاف تأثيرها على المجتمعات، وأحيانا تسليط آلة الإعلام لزعزعة الثقة أو تلاشيها بينهم وبين الجمهور.