قراءة لعلوم اللسان العربي في مقدمة ابن خلدون
د. إسلام إسماعيل أبو زيد | أكاديمي مصري
لقد كان ابن خلدون منذ قرون، أدق منا في استعمال اللسان للدلالة على الحصيلة اللغوية بالمفهوم الخاص لأمة من الأمم. لأن الأصل في اللغة بهذا المفهوم الخاص، هو المخارج المركبة، التي يقوم اللسان بأعظم جهد في إصدارها… وهذه المخارج المركبة لا تقوم بذاتها، ولا بمجرد تأليفها ولا بإصدارها، وإنما تقوم أيضا بطبيعة الصوت ومقداره وحالة تتابعه.
يجمع ابن خلدون بين اللغة والأدب في مصطلح واحد هو مصطلح “علوم اللسان العربي”، والذي يشير – حسب ابن خلدون – إلى أربعة علوم، هي: النحو واللغة والبيان والأدب، وهذه العلوم سنحاول تتبُّعها كما جاءت في المقدمة، مع تتبع ما جاء فيها من القضايا اللغوية والأدبية.
1- علوم اللسان:
والذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو، إذ به تتبين أصول المقاصد بالدلالة، فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر، ولولاه لجهل أصل الإفادة، وكان من حق علم اللغة التقدم، لولا أن كثرة الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد والمسند إليه… فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة، إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة وليست كذلك اللغة
أ- علم النحو: هو عند ابن خلدون مجموعة من القوانين والأقيسة التي يقاس عليها الكلام، وقد جعل علمَ الإعراب جزءًا من النحو، وهذا يعني أنه يجمع النحو والصرف في مسمَّى النحو، ويرى ابن خلدون أن الإعراب خاص بالعربية، ولعل هذا ناتج عن قلة اطلاعه على اللغات الأخرى كاللاتينية مثلًا فهي إعرابية، والأمر نفسه وقع فيه عندما نسب الإيجاز للعربية فقط.
وقد أشار إلى أن هذا العلم ظهر مع ظهور اللحن وفساد اللسان، وأن أبا الأسود الدؤلي أول من بدأه، ثم تبعه الفراهيدي وسيبويه صاحب أشهر سفر في هذا العلم (الكتاب) وأهمه وأجمعه، وبعد ذلك ظهرت المدارس النحوية كمدرسة البصرة ومدرسة الكوفة وغيرهما، وكثرت المؤلفات والشروحات والتلخيصات نثرًا ونظمًا.
ب- علم اللغة: وهو عند ابن خلدون بيان الموضوعات اللغوية أي المفردات فهم المعجم في العصر الحديث، وأول من ألَّف فيه الفراهيدي صاحب معجم العين الذي اختصره الزبيدي في الأندلس، وظهرت بعد العين مؤلَّفاتٌ كثيرة في اللغة؛ مثل: الصحاح للجوهري، والمحكم لابن سيده الأندلسي، والجمهرة لابن دريد، وأساس البلاغة للزمخشري، وفقه اللغة للثعالبي.
ت- علم البيان: يقول ابن خلدون: “هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية واللغة، وهو متعلق بالألفاظ وما تفيده”، وهذا يعني أن النحو وما يتصل به هو أول ما دعت إليه الحاجة، وبعده ظهرت الحاجة لحفظ متن اللغة بالمعاجم، ثم ظهر علم البيان الذي ارتبط أساسًا بإعجاز القرآن الكريم، وقد ذكر ابن خلدون بعض مباحث هذا العلم؛ كالتقديم والتأخير، والخبر والإنشاء، والوصل والفصل، والاستعارة والمجاز والكناية، وألوان البديع، وهذه المباحث وغيرها تجمعها ثلاثة علوم عنده هي البلاغة (المعاني) والبيان والبديع، وقد ألَّف في هذا العلم ثلةٌ من العلماء، ذكر منهم ابنُ خلدون الجاحظَ، وقدامةَ بن جعفر، وابنَ رشيق، والسَّكَّاكيَّ، الذي هذَّب مسائل هذا العلم ورتَّب أبوابه في كتابه المفتاح في النحو والصرف والبيان.
ث- علم الأدب: الأدب عند ابن خلدون اسم جامع للشعر والنثر، بالإضافة إلى اللغة والنحو، والأيام والأنساب، والأخبار العامة؛ فهو يقول: “الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كلِّ علم بطرف”، وأصول الأدب حسب ابن خلدون أربعة هي: أدب الكتَّاب (الكاتب) لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، والنوادر لأبي علي القالي.
2- القضايا اللغوية والأدبية:
أ- اللغة ملكة صناعية: فهي ليست فطرية بل تُكتسب بالتكرار والسماع؛ أي: بالتعليم، وإذا كان السماع يرسخها، فإنه من جهة أخرى يفسدها، وهذا ما حدث للعرب عند اختلاطهم بالأعاجم وتعوُّدِهم على سماع لحنهم؛ حتى وقر في ألسنتهم وألسنة أطفالهم، وتجدر الإشارة إلى أن ابن خلدون يفرِّق بين النحو – أي: صناعة العربية – وبين اللغة العربية كمَلَكَة، وهذا التفريق يشبه إلى حدٍّ كبير التفريق بين اللسان والكلام كما جاء في النظريات اللسانية الحديثة.
ب- التغير اللغوي: أكد ابن خلدون أن اللغات تتغيَّر مع الزمن بالاختلاط، ويبدأ هذا التغيُّر بالجانب الصوتي، وينتهي بالجانب الدلالي، يقول: “ثم فسد اللسان العربيُّ بمخالطتها (الألسنة العجمية) في بعض أحكامه وتغير أواخره، وإن كان بقي في الدلالات على أصله”، وأشار ابن خلدون إلى أن التغيُّر اللغويَّ يبدأ في الحواضر قبل البوادي؛ لقلة الاختلاط فيها.
ت- اللهجات العربية: يرى ابن خلدون أنها لغات قائمة بذاتها مخالفة لعربية مضر الفصحى، وقد نشأت مع الزمن بالاختلاط بالبربر في المغرب، والفرس والترك والروم والقبط بالمشرق، والإفرنجة بالأندلس، “وصار أهلُ الأمصارِ كلُّهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم، تخالف لغة مُضَر، ويخالف بعضُها بعضًا”.
ث- الذوق: هو عند ابن خلدون حصول ملَكة البلاغة للسان بمخالطة كلام العرب وممارسته، لا بمعرفة قوانينه وقواعده، وهذه الملكة “تهدي البليغ إلى وجود النظم وحسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم”[7]، فيستطيع بذلك تمييز السمين والغث من الكلام، فكأنه يذوق الكلام ويميزه كما يميز اللسانُ أنواعَ الأطعمة.
ج- الازدواج اللغوي: يرى ابن خلدون أن اللغة الثانية تكون أقلَّ إتقانًا من اللغة الأم لتزاحم المحل، فهو يقول: “إن المَلَكَةَ إذا سبقتها مَلَكَةٌ أخرى في المحل، فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة”، وهذا المبدأ يطبقه في تعلم اللغات، وفي تعلم الصنائع، وفي الإجادة في الشعر والنثر.
ح- فنون الأدب: ينقسم الأدب إلى نثر: وهو الكلام غير الموزون، ويكون مسجَّعًا أو مرسلًا، وشعر: وهو الكلام الموزون المقفَّى، وينقسم حسب أغراضه ومنها المدح والهجاء والرثاء، وذكر ابن خلدون أن المتأخرين ابتدعوا نثرًا يستعملون فيه أساليب الشعر وموازينه.
خ- الشعر وصناعته: تحدَّث ابن خلدون عن القصيدة ومكوناتها وموضوعاتها، وشرف الشعر عند العرب، وانتقد التعريف المشهور للشعر بأنه الكلام الموزون المقفى، وقال: “الشعر هو الكلام البليغ المبنيُّ على الاستعارة والأوصاف، المفصَّل بأجزاء متَّفقة في الوزن والروي، مستقلٌّ كلُّ جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به”.
أما صناعة الشعر، فتحتاج – حسب ابن خلدون – إلى حفظ أشعار العرب، والنسج على منوالها، وطلب الإلهام بالخروج للطبيعة.
د- الأسلوب: يعرف ابن خلدون الأسلوب بأنه “هو المنوال الذي ينسج فيه التراكيب، أو القالب الذي يفرغ فيه”، ولا يرجع للبلاغة والنحو والعروض؛ “وإنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص”، وهذه الصورة الذهنية بمنزلة قالب ذهنيٍّ تفرغ فيه التراكيب الصحيحة التي تلائمه من جهة، وتلائم العربية من جهة أخرى، وهذه القوالب الأسلوبية لا تحصل بتعلم القواعد؛ بل بمخالطة العربية وحفظ أساليب العرب.
ذ- المعنى واللفظ: يؤكد ابن خلدون أهمية اللفظ حيث يقول: “اعلم أن صناعة الكلام نظمًا ونثرًا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني”، فالمعاني موجودة في الضمائر ولا تحتاج لصناعةٍ، عكس الألفاظ التي تختلف من شخص إلى آخر تبعًا لدرجة التمكن من هذه الصناعة، كما أن المعاني ثابتة، أما الألفاظ فمتغيرة ومتعددة، وقد شبَّه ابن خلدون المعاني بالماء، والألفاظ بالآنية التي يوضع فيها؛ فقد تكون من ذهب أو فضة أو زجاج أو طين، فالماء واحد، والآنية تتغيَّر.
ر- الطبع والصنعة: الكلام المطبوع هو “الكلام الذي كملت طبيعته وسجيته من إفادة مدلوله المقصود به”، مع جماله ورونقه من غير قصدٍ أو تكلُّفٍ وإلا سُمِّي مصنوعًا، وأشار ابن خلدون إلى أن الصنعة في الشِّعر ظهرت مع الإسلاميين خاصة بشار بن برد ومسلم بن الوليد، ووصلت إلى القمة مع أبي تمام وابن المعتز.
ز- أشعار العرب وأهل الأمصار: ختم ابن خلدون مقدمته بذكر مجموعة من الأشعار من مختلف الأمصار، وأشار إلى ما وقع فيه من تغيير وتجديد، خاصة على مستوى الشكل، حيث ظهرت بعض الأشكال الشعرية؛ كالموشح والزجل والمواليا وغيرها.
تركيب:
لقد لخَّص ابن خلدون مباحث اللغة والأدب، وناقش مجموعة من القضايا اللغوية والأدبية، وبعض آرائه لم يعرفها العالَمُ إلا في العصر الحديث؛ كقوله: إن اللغة مَلَكَةٌ في الذهن، وهذا عين ما جاء به تشومسكي، ونظرته التطورية للغة، وهو التوجه اللساني نفسه الذي ساد في القرن 19 وما زال ممتدًّا إلى اليوم، وحديثه عن الاحتكاك اللغوي وأثره في اللغة، وهذا ما يعرف اليوم بعلم اللهجات، وهو فرع من علم اللغة الجغرافي.
كما أن ابن خلدون أكد اجتماعيةَ اللغةِ، وأنها عنصر من عناصر العمران، وهو بذلك سبق اللسانيِّين المعاصرين الذين تأثروا بعلماء الاجتماع في سعيهم لموضوعية البحث اللغويِّ، مما أدى إلى ظهور علم اللغة الاجتماعيِّ.
ولا يخفى على من يقرأ “المقدمة” أن لصاحبها درايةً بالأصوات، سواء في حديثه عن التجويد أم الغناء، كما لا تخفى نظرته النقدية الفاحصة المعتمدة على النظر العقليِّ والذوق السليم، هذا مع ضلوعه في علم الأدب والبيان.
وفي الختام نقول من خلال هذا التأريخ الموجز الذي أورده عبد الرحمن بن خلدون لعلم اللغة ولأهم مصادره ومراجعه، يلاحظا جليا أنه كان متألقا في استكشاف حقائق اللغة وأهميتها المعرفية لثقاقة الشاعر وصقل موهبته الفنية في قرض الشعر. فاللغة – حسب رأي ابن خلدون- لها وظيفة إبلاغية أو إخبارية، يتم بواسطتها إخبار السامع أو المتلقي بمضمون الرسالة وبالتالي فهي تقوى بقوة أهلها وقوة إشعاعها تعبر عن قوة إشعار الأمة التي تتداولها إذ اللغة إجمالا وتفصيلا هي مرآة حضارات الأمم , من هنا تكمن أهمية علم اللغة في فكر ابن خلدون.