حوار عالم الثّقافة: الكاتب الكردي “عبد المقصد الحسيني” وفيروز باش (وجها لوجه)

يعرّف “عبد القصد الحسيني” بنفسه فيقول:”ولدت في بيئة مجهولة.أنهيت الثّانويّة في عامودا..عامود العش الخجول.دخلت بعدها فرع جغرافيا في دمشق،ثمّ مارست التّعليم لأفصل من وظيفتي في بداية الحراك السّوري بقرار من مجلس الوزراء.أكثر كتبي لم توافق عليها الرّقابة،وتعدّ المكتبة الّتي أملكها أكبر مكتبة في عامودا.ولحدّ السّاعة لا أستطيع الذّهاب إلى دمشق لأنّي مطلوب من النّظام.

***

س: بداية،حدّثنا عن طفولتك و تأثير العائلة في تكوين شخصيتك؛خاصّة والدك و أعمامك.

ج: أنا ابن جزراوية مكتظة بالجراد وأئمة الخرنوب... بصراحة كانت طفولة لقيطة في مشيئة القدر،طفولة من لهاث الغبار، ومن الركض في بحور الغمام... طفولة تقتفي الضوء الهارب من أصابعي البتراء ، ونكبات الروح... نزيف ابتهالات أمي الغامضة على طرف السجادة الملتوية بشفاعة الرحمن، حلم يرادودني منذ الأزل. حين رمتني أمي في ليلة بلهاء في قرية مرمية ولم أجد صرختي ولا صداها... منذ كنت طفلا، كنت شغوفا بالبحث..أبحث عن غربان قلبي، أبحث عن الصرخة في بنيان نصوصي ،وارتباطي بوالدي قدر إلهي..قدر غائب!.. طالما كنت ظله الأنيق والحائر في القرى لأعرف أكثر.. ارتويت من يديه المعرفة القروية الأنيقة،و كنّا صديقين وأحياناً أكثر. وبصراحة لم أشعر يوماً بأنني ابنه الهادئ الخجول كما كان يصفني للّذين يسألونه... لقد ارتويت من يديه ومن أعمام متنورين في نصوص الله ، ذخائر للمعرفة الشريدة، وأخذت من علومهم القليل .

طفولتي كانت كالخرنوب، وشوق في تجويد الحروف

طفولتي كانت غيمة فاجرة في المشهد الآلهي

أظن بأنني كنت أهيم على وجهي كالمسيح.

خائف من تدوين الآلهة شغب قلبي في مدونة القبر.

***

س: مَن يعرف عبد المقصد الحسيني يدرك جيدا مدى تعلّقه بمدينته ” عامودا “. ما سبب ذاك التعلّق الشديد؟

ج: عامودا مدينة نائمة في شرشف الخجل المركون في نصوص الغياب تحتضن السيرة المفقودة.

عامودا معبد وثني، بين يدي ناسخين ضريرين يرممان الندم فوق بواباتها.

عامودا مكان مجهول بين أصابعي وسرير غفوة شغب.

عامودا مدينة في مبحث الزوبعة، ملفوفة بالغيهب المنتحر. أجلس فيها بجانب المقابر، وأكتب وصايا الموتى،

حتى يفيقون لننحت معاً أصناماً للمتعة في سطور المدينة

أحن إليها وأنا فيها لأرتوي من هدوئها مناسك الحنين المفقود، وأغدو في الأفق سرب زرازير.

غيوم قلبي المرمية بعبثية المهارش..أحن إليها لأجد في الفهرس سريراً صالحاً لأغفو قليلاً،

ثم أغدو في الأفق لأجد مدنناً صاخبة مثل قلبي ،وأعود لأرمي في كوخي غزواتي الفاشلة .

ووحدها عامودا تحتضن ظلي الخجول.

***

س: ماذا تعني لك كلمة ثورة؟

الثورة كلمة ميتافيزيقية في المشهد العبثي …في انتفاضات الرسل.

الثورة حاضرٌ مؤلمٌ في الغفوة والشغف والعشق والنكاح.

الثورة اشعالُ شموع الفرح المنهوب من الذاكرة من مفاصل الوقت

لاتنظري إلى كلمة الثورة كنبي صالح ومنقذ للكون،

الثورة اليوم أشبه بمرتزق فارِ من المعجم،ومخطوطة بأيادي الزنادقة

الثورة …. خريف تائه في التقويم

كلمة الثورة لم تعد تعني لي شيئاً، إنها اليوم إحدى كوارث الطبيعة.

***

لماذا فصلت من وظيفتك؟

تم فصلي من الوظيفة بقرار من رئاسة مجلس الوزراء.. خرجت كما الجميع،أيدّنا الحراك الشعبي السلمي في بدايته ..نعم، وحتى آخر لحظة الحراك السلمي... حتى الآن لم أعرف السبب الحقيقي وراء فصلي من وظيفتي التي لا أجيد سواها ..قرار فصلي كان قراراً أرعن بكل الأحوال... خسرت مثلما خسر كل الطيبين الصادقين المؤمنين بغد أجمل وأنقى وأنظف وأكثر حرية وسلام ... خسرت … ولم ولن أندم، لكن يبقى قرار فصلي من وظيفتي نوعا من الإرهاب النّفسي والفكري الّذي مارستها الدّولة علي لوأد حريتي.

***

بصراحة.. بعد كلّ ما طالك من ظلم ومعاناة و تهميش متعمّد،فقط لأنّك باركت الثّورة قولا و فعلا.هل أنت نادم اليوم على مواقفك؟

ج: كنت الابن الضائع في ميثولوجيا الحراك… خرجنا لصلاة الاستسقاء، لبناء وطن مزخرفِ بالنزاهة والحب والسلام… خرجنا لحراسة عذريّة القدر، وبروح نقية لسقاية الذاكرة المنهوبة

خرجنا وبصفاء أيدينا كتبنا للحراك، ولكنّنا فشلنا،وأصبحنا أسراب غربان لأطماع خارجية طامعة في هرسنا ونهب كل شيء في وطننا … فشلنا … نعترف. نعم نعترف، ولكننا لانزال نخبئ شغب أحلامنا في زوايا القلوب الحائرة … لم أندم للحظة ولازلت أؤمن بالشغب الجميل والنّزيه، كان واجباً عليّ كما الجميع أن نقف مع الحراك السّلمي من منطلق المعرفة، والأخلاق، التي ارتويت منها… من واجبي أن أقف بجانب حراك المومسات في ممارسة أحلامهن.. هكذا تكمن اللذة…لذة الحياة والوقت.

***

س: زيادة عن محبّة الشّعر.هل تعتبر الألم قاسما مشتركا بين الشّعراء؟

ج: الشاعر يعيش دائماً حالة من الاغتراب المعرفي والبحث عن نصوص روحانية والاغتراب الروحي حالة من الجنون الجميل في بيادر الله، والقاسم المشترك بين الشعراء هو هذا الألم الأشبه بطائر العنقاء.. الشعراء وحدهم يحتفلون بموتهم البطيء.. الموت المخفي بين السطور الموت المخفي في جدائل الريح ….. الشعراء لايحرثون … إنهم ملائكة النصوص، يحتفلون في الرثاء المتناثر في أرض بيضاء قاحلة، ولايجدون شهقة غيمة في البياض… لم نجد يوماً أصص الفرح فوق الحواجب.. إنها حالة من الذوبان في العراء الفاحش، في الفهرس المذبوح.. إنها رحلة عذاب ..رحلة مجهول لإيلاف قريش في رحلة الشتاء والصيف.

***

س: تكتب الشّعر باللّغة العربيّة.ماذا عن اللّغة الكرديّة؟ألم تكتب قصائد معيّنة بلغتك الأم؟

سؤال مخيف.. يُرعبني .لم أدون قدري ..عشقي ..طفولتي، بلغتي الأم.. كأنّ شخصاً يهديني كفناً أسود لألبسه على باب القبر ، فتطردني الملائكة.. لم أكتب بلغتي الأم لأنّي لم أجد حروفاً منحوتة في شرشف السؤال.. اسألوا زنادقة العصر والآلهة، اسألوم لماذا لم نرتوي من زبد حروف طفولتنا... كنا رعاة للضجر الغائب في مدونات الموتى.. منذ الصغر أُجبرنا على تعلم الحروف العربية، وباتت ثقافتنا الأولى حتى كبرنا فغزوناها شعراً ونثراً وتصوفا... وبكلّ الأحوال اللغة تبقى إحدى وسائل التواصل لإيصال المعرفة،ولبلوغ الفكرة هدفها المنشود.

***

س: حدّثنا عن حضور المرأة في أشعارك.

ج: حضور المرأة هو البداية و النّهاية.. بحرٌ هائجٌ من القبلات المتناثرة بين سطور الروح.. حضورها ملائكي، والأنوثة ترهق أصابعي.. أمنحها خرزا وعقيقا وعطورا من براري القلب لتبقى شمعة في النص ... الآلهة سرقت تفاصيل قدرها، وأخفت مراسلات حضورها لتبقى حورية الذكر الأحمق .... لقد كان إجحافاً إلهياً بحقها، أحد لوائح الخوف في اغتصاب جمالية خجلها... أنا أمنحها مرسم قلبي، وأخطف من ثغرها زبد البقاء... حضورها في نصوصي قوي وجميل أنّها منحوتة بشهوة أصابعي، وشغفي في النص... وجودها الأنثوي يجعلني أرهق البياض بعطرها وكحلها، وأمضي في إرواء النّص بقبلات في مغيب خدودها.بغيوم أصابعي أرتمي بين يديها كما ترتمي الحروف بين السطور .

***

س: يقول محمود درويش:”لا أعرف ما هو الشّعر،لكنّني أعرف ماليس شعرا.ماليس شعرا هو ما لا يؤثّر بي،ولا يهزّني.” تعليقكم؟

 

ج: كلام درويش منطقي، الشعر هو الحس المجهول في تراتيل النبوة ، الشعر حالة اقتباسات من كنوز الآلهة، من المجهول، من قفير الملائكة … درويش حين يقول لاأعرف الشعر، ليس بين يديه بيان لكتابة سطر شعر... ماليس شعراً هو الكلام في المراسلات الوطنية ..ماليس شعراً أشبه بفوارغ ط.. كلام درويش منطقي، الشعر هو الحس المجهول في تراتيل النبوة ، الشعر حالة اقتباسات من كنوز الآلهة، من المجهول، من قفير الملائكة... ماليس شعراً هو الكلام في المراسلات الوطنية ..ماليس شعراً أشبه بفوارغ طلقات.. أتفق معه في هذا الكلام .تعريف الشّعر هو الحالة الإبداعية عند الشّاعر.. تعريف الشّعر هو وأد أنوثة سريالية الغيب في الذهنية..الشّعر حالة الّلاواعي في إيجاد النّص.

***

س: الحداثة أمر مطلوب و ضروريّ،لكن ألا تظنّ بأنّه على الشّعراء الاطّلاع على الشّعر الكلاسيكي، والانطلاق منه نحو ما يريدونه أن يكون؟

ج: الماضي غدير لإرواء الذهنيّة، وترشيد الوقت في بداية السّطر والتبحّر في كنوز الماضي من فطاحلة الشعر والنثر..تجليّات جلال الدّين الرّومي، والمتنبي والتّوحيدي،والسّهرودي… هو انعتاق للرّوح بغبار الطّلع الأنيق، ثمّ المضيّ قدماً في الحداثة، للخروج من عباءة الماضي بعلوم وتقنيات حديثة لمواكبة العصر... أمّا عن الحداثة الشّعريّة ،فهي كما ذكرت ضرورة..هي انقلاب على الماضي المترهّل، وتحريك للكلمات من خمولها في هذا البياض بصيغ هندسية جديدة في الذاكرة... الحداثة الشّعريّة،ذهنيّة هائجة لتقديم فسيفساء مابعد الحداثة.

***

س: ماذا عن تجربتك فيما يخصّ الكتابة الرّوائيّة؟

الرواية فلاة، أكتب فيها ثبوتيّات الخيال .. عمارة هندسيّة فائقة الجمال .أجد في كثير من الأحيان بأن القصيدة مكان صغير ضيّق لأحلامي .بعكس الرّواية.الرّواية سرير واسع لتدوير أحلامي وتكوينها على شكل قطط ملونة تتسلق جدران القيامة.. تجربة الرّواية لدي أجدها أكثر زخماً من القصيدة،القصيدة تقيّدني وتضع أمامي مساحة لاتتجاوز ثقب الإبرة لكي أتحرك... أنا مشاغب في البياض .. ليس لدي محرّمات وحدودي هي أصابعي.. أصابعي هي انتفاضة في الرواية.. مملكة من ذهول الذاكرة، ونزيف في اقتحام بيوت الجواري، والطّغاة.. وقصور الفجور... تجربة الرواية غنيّة عن التّعريف …خيالٌ غامضٌ وعوالم مدهشة .حين هربت القصيدة إلى مصحة الرّواية عرفت أنّ الكون عبارة عن مصحة كبيرة لابدّ من الإبحار في تجلّيات القدر لإنجاز السّيرة ،وتنقية البهجة المجهولة في الرواية إحدى حراس القيامة والملائكة وأبواق النفير.. الرّواية غيوم هائجة في التّكوين البشري .ولقد أصدرت حتى الآن: العتبات الترابيّة، مواثيق القدر المجهول، خفايا الوقت المهدور ، النكبة العمياء، وأسياد الظّهيرة القاتلة…. ولدي مخطوطات في انتفاضة العاصفة في انتظار المجهول.

***

س: كلمة توجّهها لقرّاء جريدة عالم الثّقافة، مع تقديم مقطع من قصيدة كتبتها،عزيزة على قلبك نختم بها حوارنا.

ج: شكراً لقرّاء الثّقافة العمانيّة، وللجميع بكل تأكيد. تفاعل التّجارب والنّصوص من بيئة إلى بيئة أخرى، عمل شاق..لذلك

 

لنخرج معاً بروح نزيهة بعيداً عن التعصب الذّهني والقسري.

 

الله

لاتخادعني بالحوريات

 

والعطور

واللوز

 

والنفير

 

لي حورية بين النهرين

 

تدون وصايا الحزن

وأنا كاهن النص المزخرف بألوان قلبي النّازف

 

فوق عوسج تائه في بلاد

 

لم أجدها في المعاجم

وبثمرة خرنوب أسدد رمقي

 

وبامرأة تمسح الخسوف من كبدي

وتنثر في القلب

 

غيوماً هائجة

 

كأصابعي في النحت

 

أعشق خجلها

في بادية كفي

 

وأرتوي النبيذ في وطن

يشبه رونقة خرزها

 

وأمضي في الخلود

لاتلومني

 

لاتلومني يالله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى