إسرائيل تعتقل فرويد في سجن المسكوبية
بقلم المحامي | عيسى قراقع
اعتقلت سلطات الاحتلال العالم والطبيب النفسي فرويد في معتقل المسكوبية، يقبع في زنزانة ضيقة مخنوقة، مليئة بالقاذورات، جدرانها خشنة، اضاءتها خفيفة باهتة صفراء، معزولا عن العالم، يعيش في زمن دائري مقسم الى وحدات ميكانيكية يتحكم بها السجانون، ومجموعة من الاجراءات هدفها خلخلة وتعطيل كل حواسه وقدراته واضمحلاله، خاضعا لمزاج الحراس واهانتهم المستمرة وعربداتهم المنتشية بالقوة والغطرسة.
العالم والطبيب النفسي سيغموند فرويد، الذي تم اعتقال عقله أول مؤسس لنظرية التحليل النفسي والذي وضع منهج بحث السلوك الانساني واستخدمه كطريقة علاج فعالة بهدف تخفيف معاناة الانسان وازالة الاعراض المرضية وتحسين صحته النفسية من خلال اكتشاف المواد المكبوتة في اللاشعور والخبرات المؤلمة وتحويلها من اللاشعور الى الشعور عن طريق التعبير اللفظي والتداعي الحرّ وتحليل الاحلام بهدف احداث تغير اساسي في بناء الشخصية على قاعدة ان افكارنا الواعية ليست الا خيطا رفيعا يحوم بين تلافيف عقولنا، العالم و الطبيب فرويد قامت سلطات الاحتلال باعتقاله، ويقبع في غرفة (4) في سجن المسكوبية، وقامت بتحوير نظرياته وتقنيات علاجه النفسي بهدف ايقاع الاذى واحداث الاضطربات والتسبب بالمعاناة للاسرى والمعتقلين، مستخدمة اسرائيل انجازات العلم بهدف عكسي لممارسة القمع والتعذيب وانتزاع الاعترافات.
عبرت الدكتور فردوس العيسى في كتابها حول استخدام نظريات علم النفس في أساليب التحقيق مع المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الاسرائيلي عن صدمتها ودهشتها من اعتقال علماء النفس والاطباء النفسيين في سجون الاحتلال وإخضاعهم للتحقيق والاستلاب الفكري، حيث لم تتوقع الدكتورة فردوس ان علم النفس يمكن ان يكون مصدرا للتعذيب والاضطهاد، وان جزء من علماء النفس انفسهم ومن المعالجين النفسيين قد اشرفوا ومارسوا وساهموا وبشكل مباشر في صياغة اسس ونظم ومناهج التعذيب وبذلك يكونون قد زودوا قوى الشر بأدوات فعالة لاضطهاد الشعوب واخضاعها.
فرويد سمع صراخ المعتقلين المعذبين، ضرب مؤلم، صفعات، ركل، استغاثة وسقطات على الارض، شتائم بذيئة وقذرة، تهديدات مصحوبة بالضرب المبرح، وسمع صوت اطفال قاصرين ونساء، أجواء رعب تملأ ساحة المسكوبية، اصوات مكتومة مقيدة، رائحة دم، تمزيق للحبل السري الذي يربط الطفل الاسير بالعالم الخارجي وبكل ما كان يعتمد عليه، انه أكبر تهديد خطير للوجود الكلي للطفل، الخوف من العزلة، قتل لكل دوافعه الفسيولوجية، انهم يقتلون الاسرى في أوراحهم ويدمرون ذواتهم.
العالم فرويد خلال جولات التحقيق معه رأى معتقلين مشبوحين ، رؤوسهم مغطاة بأكياس سوداء، مقيدين على كراسي محنية الظهر، منهكين، وكان هناك اطباء مختصين يحضرون الى الاسير ينظفون جروحه، يعطونه كأس ماء ليستمر على قيد الحياة ولكي يجدد قدرته على تلقي المزيد من التعذيب.
اكتشف فرويد خلال اعتقاله ان الجلادين يتفننون في تعذيب الضحية ، فأكثر من موت الضحية هو الموت الداخلي، والالغاء الذهني لهم الى حدّ يعاملونهم انهم ليسوا من بني البشر، فالجلاد يرى السجين يضرب، يرى دمه فيتلذذ بذلك، وان الضغط النفسي هو الاكثر ايلاما الذي يتعرض له المعتقلون.
ويقول فرويد: الجلاد الاسرائيلي يضرب ضحاياه ليس لهدف انتزاع معلومات او اعترافات بل يعذبه ليستمتع ويسلب منه كرامته وانسانيته، وهم يدمرون الغرائز الانسانية، فيمارسون دراما التدمير ضد اشواقه وانفعالاته واهتماماته بالحياة، وبالتالي يتعاملون مع الاسير بأنه ليس شبيه بالانسان، وانه لا حاجات إنسانية لديه، يرونه حيوانا بنظرة فوقية عنصرية متعالية وانه غير جدير بالحياة.
فرويد رأى أن الجلادين يسحقون الاسير و يستنفرون الوحش القابع في أعماقهم لكي يسهل عليهم تنفيذ التعذيب من خلال حيونة الضحايا ليكون سببا كافيا لكل انواع التعذيب والتنكيل والابادة.
فرويد رأى كيف شوهت نظريته العلاجية في التحليل النفسي بتركيزهم على غريزتي البقاء او الموت للانسان الضحية، التركيز على الذات وليس على الجماعة، بل فصله عما يربطه بالآخرين، الخلاص الفردي او الموت، والتركيز انه وحيد ، وحياته لم يعد لها معنى وبالتالي لا يحق له ان يعيش ، يسلبونه الرابط بين النضال ضد الاحتلال والمعاني والاهداف والقيم التي يسعى اليها
فرويد اكتشف ان المجتمع الاسرائيلي يخضع للقوة وأنه تطبع مع العنف وحول العنف الى جزء طبيعي، بل الى جزء لا يتجزأ من الواقع الاجتماعي والثقافي والايدلوجي في اسرائيل، وان التعذيب اصبح مؤسسة متكاملة في اسرائيل يبدأ من الشرطي والجندي والوزير والقضاة والصحفيين والمدرسين.
فرويد يكتشف العلاقة الوثيقة بين المحققين الاسرائيليين وعلماء النفس ، يتورط المختصون النفسيون الاسرائيليون في المشاركة بتعذيب الاسرى ويزودون المحققون بآليات وأساليب استخدام هذه النظريات لممارسة الضغط على الاسرى مخالفين بذلك آداب المهنة الطبية والاعراف الاخلاقية ، متسائلا كيف قبلوا ان يكونوا كعلماء ومعالجين نفسيين أدوات مباشرة وفعّالة في ايقاع الاذى والضرر بالمعتقلين؟
تلقى فرويد خلال اعتقاله بالمسكوبية شكاوي كثيرة عن ممارسات الاطباء الجسيمة و صمتهم ومشاركتهم في عزل الاسرى، حرمانهم من النوم والطعام، والشبح والمساومة على علاجهم، التفتيش العاري، استخدام نظريات علم النفس في تعذيب الاسرى نفسيا كنظرية المقارنة الاجتماعية للعالم فسنجر، ونظرية الانصياع “لستانلي مليغرام”، ونظرية العجر المتعلم لمارتن سلجمان،ونظرية العلاج بالمعنى لفرانكل، واستخدام بحوثهم ونظرياتهم العلاجية ومعارفهم لتطويع الاسرى وتصميم الطرق لاستجواب وتعذيب المعتقلين وتدميرهم نفسيا.
يقول فرويد أن التعذيب النفسي في سجون الاحتلال هو الاكثر استخداما والاكثر ضررا على الاسير، وأشد قسوة من التعذيب الجسدي مع صعوبة الفصل بين التعذيب الجسدي والنفسي، حيث يصعب الفصل بين الجسد والروح، وأن آثار ذلك خطيرة على المدى الاستراتيجي على حياة ومستقبل الاسير، حيث الانهيار، الهلوسة، الاغتراب، العزلة، الانطواء، الخوف، صعوبة التركيز وغيرها من الاعراض النفسية الناتجة ما بعد الصدمة.
الاسير العالم فرويد يبكي في غرفة التحقيق بالمسكوبية بعد ان وجد ان كل اعماله لخدمة الانسانية وظف بشكل مخاتل وبالتحايل على المعتقلين للايقاع بهم وتعذيبهم وتحطيم حياتهم ، وازداد بكائه عندما تأكد ان اسرائيل تستخدم الاطباء في التعذيب سواء الاطباء العاديين او الاطباء المتخصصين في الصحة النفسية وبذلك شكلوا غطاء لمنهجية التعذيب وتقديم الغطاء الاخلاقي للمحققين.
العالم والطبيب فرويد طالب بالتحقيق في التاريخ الطبي لدولة اسرائيل في معاملتها للاسرى ومحاكمتها اخلاقيا بسبب التجارب السادية المطبقة على المعتقلين وتتضمن ابحاثا لتطوير تقنيات استجواب جديدة، وصمت الاطباء ومشاركتهم وغضهم النظر عما يحدث بحق الاسرى، وتعاون الاطباء وعلماء النفس في اسرائيل مع الجلادين بعدة طرق: بعضهم يفحص السجناء يوثق انهم قادرون على تحمل الاستجواب المؤلم، والبعض يراقب ويعالج الاسرى خلال الاستجواب لضمان مواصلة المعاملة المسيئة للصحة، وبعضهم يخفي ادلة سوء المعاملة، بعضهم يجري ابحاثا مسيئة، البعض منهم يشرف على الاهمال المنهجي لحاجات السجناء من العناية الصحية والنظافة والطعام والملجا، والعديد منهم يلتزم الصمت خلال اساءة معاملة مرضاهم في السجون بما ينتهك اعلان طوكيو 1982 الذي يدين الاشتراك الطبي في التعذيب.
اعلن الطبيب والعالم فرويد ان اسرائيل تستخدم اطباء نفسيين في التعذيب فهم يعملون في مصلحة السجون ويعملون كاعضاء في لجان العزل، وفي لجان ما يسمى الافراج المبكر لاسباب صحية، وقد قدموا تقيماتهم النفسية للمعتقلين والتي قادت لايداع عدد منهم في الحبس الانفرادي ورفضوا في اغلب الحالات الافراج عن اسرى اوضاعهم الصحية تدهورت بشكل كبير، وبذلك قد ساهموا باحداث اضرار نفسية للمعتقلين وذلك بالرغم من علمهم بما ورد في المواثيق والاعلانات العالمية التي تحظر مشاركة الاطباء النفسيين في عملية التعذيب سواء البدنية او النفسية حتى لو اجبرتهم السلطات على ذلك.
العالم فرويد ومن خلال شهادات الاسرى الذين التقى بهم قال: ان المحققين استخدموا المعرفة والعلم الذي يملكونه كاداة لقمع واضطهاد وظفوها لدعم الاحتلال بدلا من دعم الانسان وتحسين نوعية حياته وانهم لم يلتزموا بالضوابط الاخلاقية التي من المفترض ان تشكل الاطار المرجعي الذي يحكم ممارستهم المهنية اثناء قيامهم بعملية الاستجواب.
المدهش كما يقول فرويد أنه التقى بجوزيف غوبلز وزير الدعاية الألماني إبان حكم هتلر يشارك المحققين الإسرائيليين في استجواب المعتقلين، أمدهم بخبرته ونظريته المشهورة في كيفية السيطرة على العقول، فالهدف ليس الجسد وإنما العقل وإعادة هندسته وتشكيله وتطويعه كوسيلة للإخضاع وتقويض الروح، عندها عرف فرويد أن القوانين النازية العنصرية أصبحت جزءا من منظومة القمع والتشريع في دولة الاحتلال الإسرائيلي.
الاسير العالم فرويد قال في مرافعته امام المحكمة العسكرية الاسرائيلية: ان اسرائيل دولة اسلاك شائكة تضعها امام الحياة والحضارة الانسانية ، وتعزز اسلاكها في الطبيعة الانسانية وفي كل المعاني السامية والقيم العليا للانسان، فلا يقدم علاج للمعتقل بالمسكوبية، بل يحقن الاسير بادوات تدمير هويته ووجوده وأحلامه البشرية.
في مذكراته كتب فرويد بمناسبة اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب رسالة إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية جاء فيها: لقد خرجت من سجن المسكوبية فاقدا الرغبة في اي شيء، مرت علي تجربة عشت خلالها في عالم من الوحوش الآدمية، كل من كان حولي من المحققين كانوا مرضى يسيطر عليهم الهوس والهستيريا والصراخ الدائم ونزعات الانتقام، يد دولة الاحتلال هي اليد الحديدية التي تعبث بالنفس الإنسانية، ربما لا تحتاج فقط الى محاسبة ومحاكمة بقدر ما تحتاج الى عزل تام عن المحيط البشري في العالم اذا اردنا حقا الشفاء.