قراءة في قصة ” قارئ الأدخنة ” لـ جوليا علي
باسم عبد الكريم | شاعر وناقد
أولا القصة :
لم أكتفِ بقراءة السحب في صدر السماء، ولا في دخان سجائر المارّة؛ اقتادتني قدماي إلى مقهى شعبيّ، جلست في العمق البعيد، لأهرب من أعين الجالسين، وأتمكّن من تأمّل أدخنة نراجيلهم الكثيفة، التي تشكّل سحباً متموّجة، تتراقص فوق رؤوسهم. تراءى لي، أنني أقرأ حاضرهم ومستقبلهم، بالإلهام حيناً، وبالاستنتاج حيناً آخر، كمنجّم متمرّس. وبلحظة أمل، لم أعرفه من قبل، أطلقتُ عنانَ مخيّلتي لبناء مشروع مربح؛ فبإمكاني استثمار مهارتي بقراءة سحب الأدخنة، مقابل مبلغ من المال، وإن كانت الفكرة، لا تختلف كثيراً عن قراءتيّ الكفّ والفنجان. إلاّ أنّ قراءةَ أدخنة النراجيل، ستكون مشروعاً جديداً، لم يسبقني أحد في استثماره. ابتسمت للفكرة؛ فقد أودّع فقري، الذي يفترسني. لكن سرعان ما اغرورقت عيناي بالدموع، وتلاشت الفكرة، مثلما تتلاشى سحب الأدخنة، حين تذكّرتُ أنّني أبكَم !!
ثانيا – القراءة :
العتبة العنوانية هي النص الاصلي للقصة ، اما المتن فهو يكشف ويوضح مايضمره هذا النص المكثف الدلالة ، من معانٍ ويجيب عما يثيره من اسئلة في ذهن القارئ، فبنية الجملة الاسمية للعتبة مزاحة تركيبياً بالحذف، مما يجعل نحوياً باعثة على (الاحتمالية) في تقدير هذا المحذوف ، (فقارئ) مبتدأ كونه معرف بالاضافة الى (الادخنة) ، فيكون الخبر هو المحذوف ، تركت الكاتبة امر تقديره للقارئ ، وبقصدية ذكية ، فالحذف عمق من غرائبية دلالة المبتدأ ودفع القارئ للاستغراق بتصور ذلك (المجنون) او (الحكيم) او غيرهما ممن ينصرف لقراءة مالا يُقرأ !!! وهنا اتبعت الكاتبة تكتيكاً فنياً حذِقاً اوحى للمتلقي انه سيلج عالم قصة غير تقليدية في فكرتها وصراعية حدثها وعليه ان يؤجل التعرف على صحة ماتصوره عن ذلك المحذوف حتى نهاية القصة . بذا شفَّرتِ الكاتبة العنوان فهو من جهة خلق توتراً دلالياً بين المجنون / الحكيم (او مرادفاتهما) ، ومن جهة بعث للقارئ رسالة ان هناك مكافئاً موضوعياً واقعياً ( اي ان له وجودا معنوياً في الواقع المعاش) مسكوتاً عنه ، فمن يقرأ الأدخنة (ومن مقاربتها المعنوية : السراب ، الوهم ، فكلاهما يتبددان حين نريد الامساك بهما ) اشارة بارعة الترميز الى خواء الواقع :(( لم أكتفِ بقراءة السحب في صدر السماء، ولا في دخان سجائر المارّة ))
فعل القراءة فعل اكتشافي ، اي ان الانسان من خلاله يكتشف العالم ومن ثم يضيف الى وعيه معرفة بالاشياء ، وبطل القصة لم يجد في واقعه ما يكتشفة بسبب نضوب معانيه وهذه دلالة على خوائه ، فراح يقرأ / يكتشف ، مالا ابجدية للغته ( السحب ، دخان السكائر ) فهما وجود برسم الفناء
وهو واقع لايجد فيه الانسان وسيلة ارتزاق (اشباع حاجاته الحياتية الاساسية) الا بالتحايل على الاخرين وخداعهم ، وهذا ما تتضمنه هذه المقاطع (بتصرف) :المقطع الممهد فنياً لعقدة القصة / الحدث الصاعد :
(( اقتادتني قدماي إلى مقهى شعبيّ )) / المكافئ الدلالي لهذا المقهى : مجتمع لايجد ما يشتغل عليه ، فيقتل يومه في انزواء الاماكن .
مقطع متعالق معنويا مع المقطع السابق / متمم الحدث الصاعد :(( تراءى لي، أنني أقرأ حاضرهم ومستقبلهم، بالإلهام حيناً، وبالاستنتاج حيناً آخر،منجّم متمرّس ))مقطع ( العقدة ) / ذروة الحدث ؛ هنا تكشف الكاتبة عن قصد / معنى القصة: (( وبلحظة أمل، لم أعرفه من قبل، أطلقتُ عنانَ مخيّلتي لبناء مشروع مربح؛ فبإمكاني استثمار مهارتي بقراءة سحب الأدخنة، مقابل مبلغ من المال)) و ((…. إلاّ أنّ قراءةَ أدخنة النراجيل، ستكون مشروعاً جديداً، لم يسبقني أحد في استثماره )) وتسوق الكاتبة المبرر / الرابط الدلالي ، لقصدها: ((ابتسمت للفكرة؛ فقد أودّع فقري، الذي يفترسني) ثم تأتي الضربة الفنية الرائعة في الخاتمة : ((وتلاشت الفكرة، مثلما تتلاشى سحب الأدخنة، حين تذكّرتُ أنّني أبكَم ! )) كل القصة اختزلتها الكاتبة باشارة واحدة (ابكم) فهي مركبة الدلالة :
– دلالة ظاهرة : وتعني الخرس لعطب في اللسان، والدلالة هنا متقاطعة تماما مع المتوقع ممن يريد ان يستثمر قراءة الادخنة للاخرين فهؤلاء يريدون ان (يسمعوا) تلك القراءة ، وهنا التقابل بين الابكم/ المستمع
– دلالة مخبوءة / المسكوت عنها : الصمت ازاء مصادرة السلطة الجائرة لانسانية الانسان ، وحرمانه من حياة كريمة ، لايضطر فيها لقراءة الدخان مقابل لقمة عيش .