قراءة نقدية في قصص العراقي علي السباعي
د. فؤاد البسطاوي | قاص وروائي من المغرب
قصصُ (مَسَلَّةُ الاحزانِ السومرية)، للقاص العراقي(علي السباعي ): رزانة في السرد ودقة في الوصف: قصتي: ( شارلي شابلن يموت وحده ) و( كاكا.. عبد الحليم حافظ ). .أُنموذجاً.
صدرت المجموعة القصصية المائزة: (مسلة الأحزان السومرية)، عن دار الدراويش للنشر والتوزيع في بلوفديف بجمهورية بلغاريا عام 2018م، إن المنجز القصصي الفريد من نوعه يحتاج الى لغةٍ محكمة تتماشى مع تفاصيله السردية الصغيرة والكبيرة، كما نلاحظ في (مسلة الاحزان السومرية)، إذ وظف الكاتب لغته البلاغية العالية لتخدم الفكرة التي يحاول التطرق إليها سردي وتوصيف الأحداث وهذه من ابرز مقومات العمل القصصي، فلكل خاصية غرضها الأساس، تضم المجموعة القصصية عشرة قصص، هن:( شارلي شابلن يموتُ وحده،رحلة الشاطر كلكامش إلى دار السلام، إعلان وفاة ليلى، حقيبة الإرهابي ذي البدلة الأنيقة، كلكامش يغني لسليمة مراد، وحدها يدُ شهرزاد باسقة، كاكا عبد الحليم حافظ، بتهوفن يبيعُ أسطوانات الغاز، سيجارة الضابط العراقي، حوار في مرآة الذات).
قصص محملة بطاقات نقية مدهشة من قصة إلى أخرى، تجد الجنوب بشمسه الأكثر ضياءً وتوهجاً، وأفق مدينته الشغوف بها الأكثر إشراقاً، الناصرية بطبيعتها الجنوبية الأكثر نبضاً، القصة عند (علي السباعي)، انتصرت بفضل حنكته كقاص جاد مثقف صادق ماهر، القصة عنده جنس سردي فاتن، تعود بشكل أساسي إلى اجتهاداته الذهنية، جعلت قصته جد متميزة وجد متألقة، بل هي رائدة، يكتب ببراعة فنية شهد له بها معظم من سرد القصة القصيرة وكتب عنها.
اللافت الذي يشدني في القصة التي يكتبها، أنها ثرية، وسر ثرائها، تنوع أفكارها، وفرادة حكاياتها، والمعرفة التي تكمن بين متونها الحكائية، فإن قصة: (شارلي شابلن يموت وحده)، اعتمد في بنائها الحدث الذي أعتبره عنصر التشويق في القصة، تبدأ بالتعبير عن الوعي الثقافي في ابهى حلله، وتدفق القيم على شاكلة النبل، حيث نلمس ذاك الخليط المرغوب بين القوى الانسانية المحمودة والتسرع الذي تروح ضحيته البراءة، حيث يصف لنا القاص المبدع (علي السباعي)، الطفل المنغولي الذي يحمل جهاز تحكم عن بعد وهو ذاهب به باتجاه مصلح للأجهزة الالكترونية، تعاطف معه المصلح ليهديه جهاز “ريموت” جديد فيستشعر الصبي المنغولي بفرحة جعلته يدك الأرض بسنابكه من السعادة، وهو يخطو بخطوات تغمرها الفرحة والزهو يحدث الحدث الذي قلب القصة رأسا على عقب، فسرعان ما تتحول تلك السعادة إلى حزن يضرب عرض الحائط بهذه البراءة، حينما يطغى الغضب القاتم على العقل البشري يصبح كظل يتخلى عن صاحبه في أول زاوية قاتمة، حيث حدث انفجار بفعل إرهابي، قسم الأجساد إلى أشلاء تتطاير وتشظت كل تصورات من كان قريب من المشهد، وحين يلمحون الصبي المنغولي، وبيده جهاز تحكم يظنونه هو الفاعل، فينهالوا عليه بالضربات والكدمات التي أزهقت روحه البريئة:(إذ أن الناجين يعتقدون أنه من فجر العبوة الناسفة وسط السوق، رحت أصرخ في وجوههم المرعوبة مزيلا اللبس الحاصل، أخبرتهم الحقيقة، مقتله أشعل قلبي واحتضنته، شعرت بقلبي حزينا على مقتله بالحزن، شعرت بنفسي وحيداً.. في تلك اللحظات غربت شمسه، ألقت غبارها على قلبي، انطفأت شمسه، سرقت منه حياته).
إن هذه القصة نجحت من خلال ما صنعه القاص حين عكس امرين هامين، الأول:(إرهاب يغتصبنا بذكاء)، والأمر الثاني: (طفولة نغتصبها بسذاجة وتسرع).
قصة: (شارلي شابلن يموت وحده)، تبقى لحد الآن أكثر القصص التي قرأتها لعلي السباعي رزانة وارتباطاً بالواقع العراقي، وبالانتقال إلى قصة: ( كاكا . . . عبد الحليم حافظ )، حين قرأتها لأول مرة وحتى الآن طعم الدهشة في عقلي مازال طازجاً، عظمةُ القصة تكمنُ في قدرتها على التأثير في قارئها، نجد ظاهرها يخاطب احساس كل محب للموروث الغنائي الاصيل، موروث العندليب الأسمر(عبد الحليم حافظ)، حيث القصة ظاهراً هي مزيج بين الحسرة والمعاناة على شاكلة (بدر شاكر السياب )، الذي لقب نفسه وشبه شخصه بالسندباد، كونه دائم الذهاب الى المستشفيات، لقد حاول القاص ان يوثق لحياة المطرب عبد الحليم حافظ، بلعبة ذكية، عبر وصف شافٍ وواف، يمر عبر تتابع صور ولقطات، تتصاعد مع لب الحكاية الخفية للقصة الحقيقية التي يغزلها علي السباعي، لشخص كردي يحب الفنان (عبد الحليم حافظ)، حد التلبس بشخصيته، فإن القاص وفق للإنصات لأنينه الحزين، في شجنه وحبه للعندليب الأسمر والكامن في أغانيه، حيث عكس هذا النص بمهارة عليه طبيعة الشخصية العراقية الحارة التي تحب بعنف، ثم يصف لنا الكاتب الأجواء في مدينة (السليمانية) العراقية في أقليم كردستان، والتي تعتبر مرجعاً تقتبس بل تقتنص ان حق القول منه كل التفاصيل الدقيقة عن حياة المطرب (عبد الحليم حافظ)، من خلال بطل القصة المتيم بحب العندليب، من الولادة وعبر محطات الشهرة والغناء الى رحلاته الماراثونية عبر المستشفيات، لتنتهي القصة بوفاته المفجعة في عام ١٩٧٧، حتى ترديد الرجل الكردي، وهتافه لمقولة: (كاكا . . . عبد الحليم ). . . (ترك ياقة قميصي الأبيض، راح يستبدل كاسيت شريط (قارئة الفنجان)، بواحدة أخرى ، راحت مسجلته تصدح بمقدمة أغنية: ( حاول تفتكرني)، مد يده اليمنى المتسخة لي مصافحا ً ناهياً حديثنا الطويل، بعد أن وضع سيجارته بفمه، المطر توقف نهائيا، حدق بعيني بعينين يسودهما الجمر، أجابني بفخر قل نظيره: – كاكا . . . عبد الحليم حافظ).
إن هذه المجموعة القصصية بليغة حق بلاغة، رزانة في السرد ودقة في الوصف فهي تعتبر من المراجع القصصية التي وجب على كل قاص قرأتها قبل الغوص في كتابة العمل القصصي كونها استوفت جميع خصائص وضوابط المجموعة القصصية اذ اننا نجد حدث ونهاية منطقية دون أن يعتمد القاص علي السباعي على ذلك الاطناب قصد ملء الأوراق فقط.
إن قصص: (مَسَلَّةُ الأحزانِ السومرية)، عكست معان إنسانية جمة، عكسها كاتبها بمدى تصميمه وحرصه في جعلها أكثر تأثيراً في نفوس متلقي نصوصه الإبداعية تجعلهم يتفاعلون مع ما يكتبه، وهو أسمى حب، أشعر بقراءتها أنه كان قريباً جداً من مجتمعه بكتابتها، بقية قصص المجموعة تنم عن ظواهر وقضايا اجتماعية تطرق لها القاص العراقي المبدع (علي السباعي)، حيث تناولت قصصه مواضيع مختلفة ومائزة وبأسلوب أمتاز بالحبكة، وبلاغة العبارة بطريقة سلسة ودقيقة تخاطب المتلقي وتتسرب إلى أعماق فتجعله يحزن لحزن الشخصيات ويفرح لفرحها، وبالتالي فمجموعة قصص: (مَسَلَّةُ الاحزانِ السومرية)، كتبت بلغة شعرية استثمرت كل جماليات اللغة السينمائية من وصف وبناء وحركة السرد وبنية الأحداث ونمو الحبكة والانتقالات الدقيقة الممنتجة بين الزمان والمكان لتشكل خير داعم لقضايا الإنسان والانسانية جمعاء ورداً عنيفاً على الجور والقمع وكبح الحريات الفردية.