المثقفون العرب: ثقافة مطمئنة

د. خضر محجز| فلسطين

لا أعرف لماذا يسارع بعض المثقفين العرب إلى الغضب، بمجرد أن يقول أحد ما، بأن الحضارة العربية مهددة بالانقراض!. هل لأنهم يرفضون لها أن تنقرض، أم لأنهم مطمئنون إلى أنها لن تفعل؟. فإن كان غضبهم تعبيراً عن رفضهم لانقراض الحضارة العربية، فلعمري إن هذا لوعي طفولي ساذج، يرى أن مجرد إنكار شيء، كفيل بمنعه من الوجود.

كلنا نرغب في ألا تنقرض الحضارة العربية، بالضبط كما نحب أن تتحرر فلسطين، فهل مجرد حبنا تحرير فلسطين كفيل بتحريرها؟.

أما إن كان غضبهم عائداً إلى كونهم مطمئنين إلى مستقبل حضارتهم، اطمئناناً يمنعهم من مجرد الشك والمراجعة. فلا جرم، أنهم سليلو ثقافة مطمئنة، امتلكت سلطتي الحقيقة والتفسير، وابتدعت التفكير قبل أن ينزل الإنسان عن الشجرة. ومن هنا فإن أفضل ما اجترحوه لعن الأعداء، باعتباره أفضل طريقة لطردهم من مسام جلدنا، وهواء بيوتنا، وملابس نسائنا الداخلية، ولسان حالهم يقول مع جدهم القديم: “أوسعتهم شتماً، وأودوا بالإبل”.

والسؤال الذي يصر على أن يطرح نفسه، في هذا السياق المتصل هو: كم عمر هذه الحضارة العربية، التي نعتقد أنها خالدة خلود الله؟. ومن هو هذا العربي المقدس الذي خُلقت السموات والأرض له؟. وبم تكون العروبة؟.

إذا كان العربي هو من يتكلم اللغة العربية، فلا شك أن عمر الإنسان العربي لا يتجاوز عمر المعلقات، أو أكثر قليلاً. أما إذا كان العربي هو كل من عاش هنا في هذه المنطقة الجغرافية، فلا شك أن الأكراد، والبربر، واليهود، والنوبيين، والفراعنة، والأشوريين، والسومريين، والكلدانيين، والفرس، والروم، والقبط، وقبائل بحر إيجة؛ هم عرب أيضاً، مثل العدنانيين والقحطانيين سواء بسواء!. ومع ذلك فنحن لا ننكر أن بعض هؤلاء المذكورين أعلاهم قد انقرضوا، وأن بعضهم الآخر ليسوا عرباً مثلنا. فهل نحن الذين ـ من دون كل هؤلاء ـ خلقنا من رأس الإله!.

أما إذا كان كل أولئك عرباً، لمجرد أنهم سكنوا هنا، فأي شيء يدعونا إلى إنكار أن ينشئ كل من الأكراد والبربر واليهود والقبط والنوبيين دولاً خاصة بهم، تجمعهم معنا جامعة الدول العربية؟. أليسوا عرباً بمقتضى الجغرافيا؟.

أم أننا نرى العروبة بنت الإسلام!.

أنا شخصياً أرى أن العروبة هي الابنة الشرعية لكل من داحس والغبراء والمعلقات والإسلام.

أما داحس والغبراء والمعلقات ـ وما شابهها ـ فلا تسبق الإسلام بكثير من السنوات. وأما الإسلام فدين حديث أنشأ أمة من شتات الأعاريب، الذين لم يكن لهم أمل في الوجود أصلاً.

والحق أن كل ما أنشأَنا ونفاخر به ـ كعروبيين ـ مرده إلى الإسلام وحده. ورغم أن الإسلام كما أراه، هو أعظم دعوة لتحرير الإنسان، إلا أنه قد بات الآن يُعرض علينا كدين لا يختلف كثيراً عن الكاثوليكية البابوية القديمة: يشجع العبودية ويؤبد الطغيان. ولمن شاء المزيد أن يتابع هذه المناقشات العقيمة، التي يقيمها الأصوليون بُعيد كل صلاة في مسجد، حول عدالة الحجاج بن يوسف الثقفي (المفترى عليه) وعظمة هارون الرشيد الخليفة، الزاهد الذي كان يغزو عاماً ويحج عاماً؛ وتماسك عبد الحميد الثاني، السلطان الذي رفض بيع فلسطين لليهود؛ وضرورة استرقاق اليهوديات بعد النصر!…

أي والله!. هكذا كان، وهكذا هو كائن، وهكذا سيكون، طالما ادعينا أننا أمة الحق والحقيقة!.

لا بأس بقتل بضع مئات من الآلاف على يد الحجاج، في سبيل استقرار سلطان دولة الإسلام، تحت أستاه بني أمية.

كما لا بأس بجريان السحابة بالخراج للخليفة، بغض النظر عن حقيقة وجود جوعى وراء قصره، يموتون يومياً، فيما هو مشغول بمداعبة الجواري، وقطع رؤوس المعارضين.

ثم مليون لا بأس بكل هذا التخلف، الذي فرضته علينا الدولة العثمانية ـ طوال أربعة قرون لم تفتتح فيها مدرسة واحدة في قرية واحدة ـ ما دام السلطان يحافظ على تخوم مملكته، برفض بيع بعضها للغرباء.

أما استرقاق اليهوديات فموضوع جميل وساخن، ومثير للكثير من المشاعر الحارة، ويستدعي أن نختلف على كيفية تنفيذه منذ الآن!.

لقد تحقق النصر لنا بمجرد أن تمنيناه. وجاء وقت اختلافنا في أزواج هؤلاء الجواري اليهوديات مبكراً. فقليل من علمائنا (المتنورين) يرى أن علينا أن نتركهم يرحلون، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ببني النضير، فيما ترى أغلبية العلماء (المحققين) أن علينا أن نقطع رقابهم جميعا، لأن هذا حكم الله المستمد من فعله صلى الله عليه وسلم مع بني قريظة!.

ولأن الجواري نوع من (البشر)، فلا ريب أن وعينا الديني المتوارث يحضنا على أن (نحصن فروجهن) بالمسافدة الشرعية، التي هي (حقهن المكتسب) باعتبارهن سبايا أنعم الله عليهن بالحياة في (دولة الإسلام)، ريثما يُعرضن بسوق الكرخ للبيع، بضاعةً يَجُسّ مستويات بضاضتها مشترون، راغبون في تجريب نوع من نسوة فاضت عن حاجة خليفة، مشغول عنهن بالغزو والحج وقطع الرؤوس!.

يقول الإمام المحقق ابن حزم الأندلسي، في كتابه الشهير ما يلي: “وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى الْجَارِيَةِ يُرِيدُ ابْتِيَاعَهَا فَلاَ نَصَّ فِي ذَلِكَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَلاَ حُجَّةَ فِيمَا جَاءَ، عَنْ سِوَاهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ: فَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ إبَاحَةُ النَّظَرِ إلَى سَاقِهَا وَبَطْنِهَا وَظَهْرِهَا, وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى عَجُزِهَا وَصَدْرِهَا. وَنَحْوِ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ, وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ. وَصَحَّ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ إبَاحَةُ النَّظَرِ إلَى مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ”(1).

أما إمام المحدثين المعاصرين، فيقنعنا بـ(عدالة القضية) حين يروي لنا (بإسناد صحيح) عن ابن عمر، رضي الله عنه: “أنه كان إذا اشترى جارية كشف عن ساقها، ووضع يده بين ثدييها وعلى عجزها”(2).

وطبعاً، هذا كله في حماية الدولة وتشريعاتها، التي نقول إنها سماوية. بمعنى آخر: فإن الله ـ في وعينا الديني ـ هو الذي سمح للجارية بأن تتحول إلى بضاعة، يتم فحصها بهذه الطريقة المشينة قبل البيع!. أرأيتم كيف يتم تصوير دينكم على أيديكم، ثم لا تنكرون!.

لقد أوردتُ بعضَ هذه الخزعبلات، لكي أبين أن الإسلام الذي أنشأ أمتنا ـ نفسه ـ مهدد بالموت، على أيدينا نحن. ولا أعرف ماذا سوف يتبقى من العروبة بعد موت الإسلام!.

لقد مر على الطفرة النفطية في صحرائنا ما يزيد على الثلاثين عاماً. فكم مصنعا أقمنا، وكم مؤسسة دستورية بنينا، وهل كففنا عن استيراد علب العصير والكبريت والسماد والإسمنت؟. دع عنك هذه الطائرات والدبابات التي لا تجد من يحسن استخدامها.

ماذا لو نضب النفط غداً. أو ماذا لو اكتشف العالم بديلا له؟.

لقد حققنا استقلالاً في أغلب أقطارنا العربية، فوقعنا تحت هول طغيان رؤساء جمهوريات (وطنيين) الاحتلال الأجنبي أرحم منهم؟.

يغضب المثقفون العرب حين يقال إن بنيان حضارتهم مهدد بالانهيار، ثم لا يبحثون عن الأسباب المتوقعة، بل يسارعون إلى شد حصون بنيانهم بالشتائم. ألا نرى الآن كيف عدنا نوسع الأعداء شتماً، فيما هم يذهبون بالإبل؟.

كم مثقفاً عربياً مات، على طول التاريخ، دفاعاً عن حرية الكلمة؟. أظنكم ستأتونني باسم أو اسمين أو بضعة أسماء لا تتعدى الآحاد!. فأي ثقافة هذه التي لا تجد من يدافع عنها، وأي امتداد هذا الذي طوله ألف وخمسمائة عام، ثم لا يستطيع أن يقدم لنا سوى هذا النزر اليسير، من شهداء الكلمة؟. ألا يصح عندئذ أن نقول إن هذه الأسماء هي الشذوذ الذي يعزز القاعدة؟!.

إذا قلنا إن الثقافة العربية عانت، طويلاً، من تحالف المثقفين مع الحاكم؛ طلع علينا من يستشهد بقصة عز الدين بن عبد السلام، ثم لا يجد له ثانياً.

إذا قلنا إن المثقفين العرب، المعاصرين، يعيشون على فتات الدكتاتوريات؛ طلع علينا من يستشهد برجال كالشيخ إمام، وأحمد فؤاد نجم… ثم ماذا؟… وما يفعل اسمان أو ثلاثة وسط طوفان من المثقفين المتحالفين مع الحاكم؟.

كم مثقفاً عربياً، من المحيط إلى الخليج، استشهد بسبب مطالبته بالديموقراطية؟.

كم مثقفاً عربياً ، من المحيط إلى الخليج، قُتل لأنه عارض توريث رؤساء الجمهوريات العربية (الصامدة) أبناءهم؟.. أنا شخصيا لم أسمع إلا باسم واحد فحسب.. مع العلم أن رفاق دربه قد سارعوا إلى التخلي عنه، وخلوا بينه وبين (الحاكم الملهم).

هؤلاء الحكام، الذين يملأون الصحراء الممتدة بين المحيط والخليج، ما بين خائن وجبان وسلاب ومغتصب.. كم مثقفاً تصدى لفضحهم، ثم دفع حياته ثمنا لكلمته؟.

لقد قرأنا لشعراء قصائد تمدح الحاكم، مطالبة إياه أن يسعف فمها بالمال. فلماذا يسعف الحاكم فم المثقف بالمال؟. هل لأنه نام فصحا ذات يوم، فاكتشف أنه يحب المثقفين؟. أم أنه يدفع ثمن بضاعة حل وقت تسليمها أو سيأتي؟.

إن أمة لا تمتلك سببا واحدا للبقاء، باستثناء نفطها الذي يسرقه الحكام؛ لجدير بها أن ترحل.

إن حضارة لا تمتلك ما تفتخر به، باستثناء ماضٍ فيه القليل من الخير والكثير من الغثاء؛ لجدير بها أن تنقرض.

إن شعباً يفضل الموت البطيء، تحت حذاء الحاكم، خوفاً من دفع ثمن الثورة؛ لَحَرِيٌّ به أن يذهب إلى الجحيم.

إن أناساً يتصورون الجنة فروجاً جاهزة لاستقبال إيلاج محموم؛ لَجديرٌ بهم أن يودَعوا المستشفيات العقلية. ثم فليسموها (بيمارستانات) على هونهم وهوانهم.

إن تديناً لا يرحم ضعف الضعيف، ولا يجبر كسر المهضوم، ولا يوقف الطاغية عند حدود القانون؛ لجدير بالكفر أن يكون خيراً منه.

وأخيراً،

إن الادعاء لا يمكن له أن ينفي الحقيقة، مهما كان مدعوماً من قوى الطغيان.

أيها المثقفون العرب، تريدون أن لا تزول حضارتكم؟. ابحثوا عن أسباب انهيار الحضارات، ثم حصنوا حضارتكم أن يحدث لها ما حدث لغيرها.. إن القطار ينحرف عن السكة، فشمروا عن سواعدكم، وأنقذوا الركاب؛ بدلا من كل هذا السباب للسائق.

  ـــــــــــــــ

الإحالات:

1ـ ابن حزم. المحلى. ج10. تحقيق أحمد محمد شاكر. دار التراث. القاهرة. دون تاريخ. ص31. المسألة 1877

2ـ محمد ناصر الدين الألباني. إرواء الغليل. ج6. ط2. المكتب الإسلامي بيروت. 1985. ص201

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى