هل الدينُ بحد ذاته يقود الإنسان إلى اتخاذ موقف سياسي معيّن؟

حسام عبد الكريم | باحث من الأردن

أقصد هل أن النص الديني بذاته يؤدي بالضرورة تن يتخذ المؤمن موقفاً محدداً من القضايا السياسية المعاصرة؟ أم العكس؟ أو أن الإنسان يتخذ موقفا سياسياً بناء على مصالحه وظروفه ثم يقوم  “بتكييف” الدين ونصوصه بما يتناسب مع الموقف الذي اختاره بحيث يُلبسه ثوباً دينياً؟ وفي السياسة, هل الدين يقود الانسان أم الانسان يقود الدين ؟

حتى نخرج من الكلام العام سوف أتحدث عن ثلاثة مواضيع , كأمثلة تبيّن الفكرة.

أولاً : الموقف من السلام مع ” اسرائيل “.

رغم ان معظم حركات الاسلام السياسي , والتيارات الجهادية, تتفق على رفض مبدأ السلام مع ” دولة اسرائيل ” الاّ انه لا يمكن القول بأن ذلك هو بالضرورة موقف الاسلام.

فلو قرر الانسانُ ان يؤيد السلام مع “اسرائيل” فسوف يجد نصوصاً دينية صريحة وواضحة تدعم حجته . فبإمكانه الاستناد الى ” وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على الله” , وبإمكانه الاستناد الى صلح الحديبية بين النبي (ص) ومشركي قريش. وهذه طبعاً حجج قوية ولها وجاهتها.

وإن قرر الانسان رفض السلام فسيجد الكثير من النصوص الدينية التي تدعم موقفه . ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ” و ” قاتلوهم يعذبهم الله بأيمانكم ” , “واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم” و ” يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله “

وفي واقع الحال لا حظنا ان ذلك بالتحديد هو ما حصل في مصر , وعلى يد مشيخة الازهر.

فأيام الرئيس عبد الناصر , عندما كان منخرطاً في حروبٍ متواصلة مع “اسرائيل ” , قام شيخ الازهر حسن مأمون باصدار فتوى دينية تحرم السلام معها , وذلك رداً على الاتجاه السياسي المعارض لعبد الناصر في المنطقة والذي كان يسعى الى حل سلمي.

واما ايام السادات , فقد تغيّر موقف الازهر الشريف بالتبعية! فقد اصدر شيخ الازهر عبد الرحمن البيصار فتوى شرعية معاكسة تبيح السلام مع ” اسرائيل ” !

أي انه خلال سنوات معدوات قامت مشيخة الازهر باتخاذ موقفين سياسيين متعاكسين تماما , وكلاهما يستند الى أدلة وحجج وبراهين دينية قوية . 

فأين هو موقف ” الاسلام ” ؟ مع السلام أم ضده ؟

ولو قال قائل : ان شيخ الازهر لا يمثل الاسلام بل هو تابع للرئيس, فسندخل في اشكالية جديدة :  من هو الذي يمثل الاسلام اذن؟ انا ؟ أم انت ؟

 لا يمكن انكار ان شيخ الازهر يحمل اكبر المؤهلات الدينية ويتمتع بأعلى مقام علميّ وفقهي وبالتالي هو يمثل الاسلام , شاء من شاء وأبى من أبى! هو لم يهبط من المريخ بل أمضى عمره في دراسة العلم الشرعي والفقهي فإذن لا يمكن نزع شرعيته بجرّة قلم.

ثانياً : موقف المسلم من المسيحيين.

هنا ايضا توجد نفس الاشكالية .

فلو كنتَ كارهاً للمسيحيين , أو من السلفيين المتعصبين أو من أنصار جماعة بوكو حرام, فيمكنك أن تلجأ الى النصوص القرآنية التالية لتدعيم موقفك :

{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ }

 و { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} 

و { َّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 

و { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}

أما لو كنتَ ودوداً تجاه المسيحيين , أو كنتَ مشاركاً في مؤتمر للحوار بين الاديان , فيمكنك استخدام الآيات التالية :

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}

و { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى}

وكذلك يمكنك الاشارة الى موقف ملك الحبشة المسيحي , النجاشي, الايجابي تجاه المسلمين الهاربين من بطش قريش , وسرور النبي (ص) لذلك , ومدحه للنجاشي المسيحي بل ونعيه عندما مات وقيامه بالصلاة عليه غيابيا وهو في المدينة. 

فما هو الموقف الذي يريده ” الاسلام ” من المسلم اذن ؟

ظاهر تماماً انه بإمكان الانسان ان يتخذ الموقف الذي يشاء , ثم يلجأ للنصوص الشرعية التي تدعم موقفه , بعد أن يكون اتخذه!!

 وهذا ما هو حاصل بالفعل.

والمثال الثالث هو موضوع : طاعة الحاكم.

فلو كنتَ مؤيداً للثورة ضد الحكام المستبدين , أو كنتَ تسير في ركب القاعدة أو من أنصار حزب التحرير , فيمكنك استعمال : {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} وكذلك حديث ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) وحديث ( أعظم الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر ) وايضاً قول أبي بكر الصديق الشهير ( أطيعوني ما أطعت الله ورسوله, فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم).

وأما اذا كنتَ مطيعاً للحكام ومعارضاً للتمرد عليهم فلديك ذخيرة كثيرة من النصوص الدينية :

آية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)

وأحاديث (تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع) و (من كره من أميره شيئا فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا، فمات عليه، إلا مات ميتة جاهلية)

اذن ماذا ؟ هل نطيع الحاكم الفاسد ام نخرج عليه ؟ كلٌ عنده حجة شرعية في موقفه.

وهنا ايضاً قد يُقال : ان علماء السلاطين لا يُعتدّ بهم . صحيح , لا يُعتدّ بهم كأشخاص ولكن ينبغي الاعتراف ان عندهم حجة شرعية ولا بد من ردها . ثم ان فقهاء السلاطين هؤلاء لم يهبطوا من المريخ بل هم من انتاج الاسلام وكتبه ومدارسه. ومفتي السعودية فقيه كبير وحاصل على أعلى درجات العلم الشرعي , وبالتالي هو مفتي اسلامي رغم أنف الجميع. فلا يمكن تجاهله هو والعلماء الذين مثله أو اعتبارهم لا يمثلون الاسلام.

ولكن الرأي الآخر له ايضاً علماؤه الذين لا يُشقّ لهم غبار! ويكفي أن نذكر سيد قطب وأفكاره الداعية للخروج على الحكام الذين وصفهم بالطواغيت , بل والخروج على المجتمع كله ” الجاهلي ” ,,,, وهي أفكار مستمدة من صميم النصوص الشرعية.

والنتيجة : موقف المسلم من الحاكم الظالم , وهل يطيعه أم يخرج عليه , امرٌ يقرره هو بناء على رأيه وظروفه , وليس نابعاً بالأصالة من الدين ولا النصوص الشرعية.

وبناء على الأمثلة التي سبقت , يمكن القول ان النص الديني بحد ذاته ليس ذا دلالة قطعية تقود المسلم الى اتخاذ موقف سياسي بعينه. والسبب هو انه خاضع للفهم البشري . وبالتالي فما تزعمه كثير من الحركات الاسلامية , سواء كانت تصرّح بذلك أو تضمره في ثنايا خطابها, من أن مواقفها السياسية بشأن القضايا المعاصرة تستند الى الدين لا يمكن قبوله ولا التسليم به.

 وفي هذا السياق أورد هنا كلاماً في غاية الروعة والعُمق, والفهم والحكمة , بالاضافة الى بلاغته الفريدة , صدر عن الامام علي بن ابي طالب , حيث يروى انه قال :

“هذا اﻟﻘﺮانُ اﻧﻤﺎ هﻮ ﺧﻂّ مسطﻮرٌ ﺑﻴﻦ دﻓّﺘﻴﻦ , ﻻ ﻳﻨﻄﻖُ ﺑﻠﺴﺎن , واﻧﻤﺎ ﻳﻨﻄﻖُ ﻋﻨﻪ اﻟﺮﺟﺎل” . وفي روايةٍ انه أضاف ” فإن القرآن حمّالُ أوجُه “.

علماً بأنه قد قال هذا الكلام في معرض مواجهته للخوارج الذين كانوا يعادونه ويوجهون اليه أشنع التهم من قبيل الضلال والانحراف عن سبيل الحق بل ويكفرونه ويخرجونه من ملة الاسلام ! فكانوا يصرخون بوجهه ” لا حُكمَ الاّ لله ” و “الحكمُ لله , لا لك يا علي “! كل ذلك استناداً الى نصوص معينة يقتبسونها من القرآن الكريم.

فأراد الامام بقوله العظيم هذا ان يُفهمهم , وان يشرح للناس , ان كل ما يسمعونه من مواقف سياسية منسوبة الى الدين أو باسم القرآن انما هي تعبّر غن قائليها وعن فهمهم للقرآن , لا عن القرآن ذاته. 

ولكنّ الخوارج للأسف لم يفهموا . ولا زال كثيرٌ من الناس في زماننا لا يفهمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى