الشجر العالي.. (ضيفاً على نفسي أحُلُّ)

بقلم الكاتب السوداني: السر السيد

اللوحة المصاحبة: سماح الضاهر

هذا العنوان، هو في الأصل صورةٌ شعريَّةٌ للشاعر محمود درويش، جاءت في قصيدة “على محطَّة قطارٍ سقط عن الخريطة”، المنشورة في ديوانه الأخير (لا أُريدُ لهذه القصيدة أن تنتهي)، الصادر عن “رياض الريِّس للكتب والنشر”. هذه الصورة البديعة تلقَّفتْها روحي وأنا أُطالعُ هذا الديوان، ثم قفزتْ عنوةً إلى هذا العمود لا لكي أكتب عن القصيدة، ولا لكي أكتب عن الديوان أو عن عالم درويش الشعري. قفزتْ فقط لأنَّها حفَّزتْ فيَّ التأمُّل. تأمُّل الوُجُود وتذوُّقُهُ وملامسةُ الحياة والاحتفاء بها. “ضيفاً على نفسي أحُلُّ”، صورةٌ صوفيَّةٌ تُفيد الانقسام المؤقَّت بينك وبين نفسك، فكأنَّك شيءٌ ونفسَك شيءٌ آخر. فأنت ضيفٌ حلَّ عليها، هذه الضيافة التي تحملُ الكثير من معاني الفرح/الحزن، /النجاح/ الفشل، الصِّحة/المرض، الضعف/القوَّة، والخير/الشر. تحمل معنى المُكابدة في بلاغتها. ضيافةٌ في زمنها الوجوديِّ تمتدُّ من الأزل إلى الخلود. ضيافة تتداخل فيها أزمان الحياة وأزمان الموت لتصنع مجتمعة زمنَك الذي تحياهُ، والذي يعني ان تحُلَّ ضيفاً على نفسك لترى ما يُرى وما لا يُرى. أنت ونفسُك ضيفانِ يزوران بعضهما في بيت كبير هو الوجود أو فلنقل الحياة. أنت ونفسُك تعيشانِ الحياةَ وتُكابدانِ البحثَ عنها؛ لذلك تموتان وتحيَيَان وتحيَيَان وتموتان. فالحياةُ والموتُ فعلان سرمديَّان. يبدأ الأوَّل من حيث ينتهي الثاني، ويبدأ الثاني من حيث ينتهي الأوَّل؛ وهكذا، في صيرورة تمنح الكونَ إيقاعَه وشاعريَّتَه، وتمنح الحياةَ عنفوانَها والموتَ جماليَّاته.
“ضيفاً على نفسي أحُلُّ”، صورةٌ للانقسام والبعثرة. وفي الوقت نفسه، صورةٌ للتحالف مع مفردات الوجود جميعاً؛ الجبال والأنهار والأشجار والحجارة، الناس والدَّواب والسموات والأرض والنُّجوم والأفلاك والكلام. صورةٌ تجعلُ الموتَ ضيفاً يحُلُّ على الحياة، وتجعلُ الحياةَ ضيفاً يحُلُّ على الموت. وبين أن تحُلَّ ضيفاً على نفسك وبين أن يحُلَّ الموتُ ضيفاً على الحياة والحياةُ ضيفاً على الموت، تكمُنُ شاعريَّةُ الوجود وبلاغتُه، ويُصبح الشَّاعرُ هو من يستطيع أن يصنعَ للحياة الخلاَّقةِ جناحين ريشُهما الحياةُ والموت.
“ضيفاً على نفسي أحُلُّ”، حالة من الحُضُور والغياب، يغيب عنها اليقين الزَّائف وتتَّسع لتشملَ كلَّ النَّاس والطبيعة والتاريخ، فكأنَّها قصيدةٌ لا تنتهي.

(ضيفاً على نفسي أحُلُّ)
وهناك ما يكفي من الكلمات كي يعلو المجازُ
على الوقائعِ
كلَّما اغتمَّ المكانُ،
أضاءَهُ قمرٌ نُحاسيٌّ ووسَّعه.
أنا ضيفٌ على نفسي
ستُحرجني ضيافتُها وتُبهجني فأَشرَقُ بالكلامِ
وتَشرَقُ الكلماتُ بالدَّمع العصيِّ ويَشربُ الموتىمع الأحياءِ
نَعناعَ الخُلُودِ ولا يُطيلونَ
الحديثَ عن القيامةِ.
لا قطارَ هناك، لا أحدٌ سيَنتظرُ القطار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى