ملامح الوجَع في قصيدة الشاعر التونسي جلال باباي: منحنيا على الأرض مثل المزارعين
محمد المحسن | تونس
لم يستطع الشاعر منذ نشأته حتى الآن،أن ينفصلَ عن ذاته ويعيش في أبراج عاجية،ينظم من خلالها كلمات تتناسب وحقيقة الفن الشعري،الذي يذهب بمدلولاته الأولى،إلى أحاسيس مرهفة ومعان حساسة، تعكس حقيقة الشخصية الشاعرة،تلك الشخصية التي يشكلها الشعور المفعم بالحس، والمتناغم مع الطبيعة الشاعرية وحساسيتها.
وهكذا فإن الشعر على امتداد زمانه،لم يخل من لواعج الألم والحسرة،التي تعتصر ذات الشاعر،وتولد فيه أحاسيس تقودنا إلى عالمه الداخلي،ليجلو لنا ما فيه من صراعات وعذابات، قولبها بقالب أضفى عليها من الجمال والروعة،ما عمق معناها وضخم وقعها على الآذان.
يتناص الحزن والألم في قصيدة الشاعر التونسي القدير جلال باباي ( منحنيا على الأرض مثل المزارعين) بحثاً عن أشياء حميمة وأزمنة مفتقدة،لم يبق منها سوى نثار من الذكريات والأحلام الموجعة.
فالألم محض جوع للشفاء،لكن كيف يشكل قناعاً للشعر والشاعر معاً؟
تعي الذات الشاعرة أبعاد هذا السؤال الشائك،فلا تتعامل مع الألم كمجرد انفعال باطني ووجود افتراضي،يلعب على سطحه الشاعر (جلال باباي)،إنما تستند عليه كشكل من أشكال المعرفة،توسع به خبرتها بالوجود وتكتسب من خلال تداعياته حيواتٍ جديدة،طارحة تحت قناعه أسئلتها الخاصة عن واقعها الشخصي الذاتي،وهواجسها عن الإنسان والكون والحياة،وأيضاً عن مأزق واقعها الاجتماعي المأزوم، وهو ما يطالعنا على هذه النحو:
يتآكل عمودي الفقري مع الأيام كما يتآكل قلبي بمرور السنين/
يقول لي الطبيب: هذا ضريبة أن تكون بشرياً، /
أن تمشي بدل الأربع على اثنين /
قلت: هرمنا أضحى تنقّلنا في البيت على أربعٍ كالمزارعين /
تسخر منٌي حبيبتي التي تمشي على أربع منذ زمن السبعين/
وتقول: ستعتاد على ذلك، لا تجزع…
..إن لم تفلح بالرقص على اثنين ربما تجيده على خشبة الفلٌين/
يقول الطبيب :
لا تقلق، عش حياتك بشكل طبيعي
فقط لا تحمل أكثر من كيلوغرامين/
بتٌ،أزنُ كل الأشياء التي أحملها،الكتب،هاتفي،طبق التفاح مرٌتين/
من حبيبتي أكتفي بحمل كلٌ الديون/
مصاب بتآكل عمودي الفقري..!
تُظهر صور الأشعة ثقلاً زائداً فوق الكتفين/
هذه ضريبة أن تكون إنساناً ممحونا /
أعاني سيرا في الشارع الأمرٌين/
لمٌا تحلُّ العتمة،أتخبٌط كالمسعور
فوق حريقين/
يخفُّ وزن النور في عينيٌ
قلبي يتآكل بعشقين/
تقول معذٌبتي:
لا تقلق، سنُعلّم طفلنا الرابع المشي على أربع حتى تلين!!
قصيدة تحلق في عوالم من الجمال والسحر،هي بمثابة ترنيمة غنائية لما فيها من عذوبة حس، وموسيقى دافئة،وأناقة مفردات، وفيض من الشجن الخفي،وبساطة تخرج من قلب طفل، ولقد كان – جلال – وهو يتحدى المواجع والأحزان بالفعل طفلاً كبيراً،ضاعت منه في خضم تناقضات الحياة، وفي زمن مزخرف بالليل أشياء كثيرة ولم يتبق له غير أحزان خفية هي التي شكلت قوام القصيدة.
وهنا أضيف:
أشعار وشذرات الشاعر التونسي السامق جلال باباي،هي نصوص هائمة في ملكوت الأدب، والفلسفة، والروح، والجمال، تُعنى بتناقضات الحياة، هي أناشيد للألم، والبؤس، والأوجاع، والموت، والفرح، والسرور، والسعادة، فالحياة، بحسب شاعرنا جديرة بالعيش رغم قسوتها، ومرارتها،ووقد جعل من قصائده مضاداً حيوياً يسري في وريد جسد الحياة المعتل..
وإذن؟
هي نصوص إذا،بعمق فلسفي، تعبر عن موقف عالق ومتأرجح للشاعر بين أمنياته،وواقع الحياة المزخرف بالمواجع والآلام..
ختاما أتساءل: هل فعلاً الشعر حقيقة مؤلمة،لا بأس بذلك،لكن علينا أن نتذكر أن ألم هذه الحقيقة،يشد الإنسان دائماً إلى روحانيته، إلى نوره الخاص،ليعيشَ الحياةَ كما يحب ويشتهي، رغم قسوة الواقع وظلمه وانحطاطه…
هذه هي الخلاصة التي خرجت بها من قراءة هذه القصيدة المتميزة بألمها والتي نالت مني كلماتها في نخاع العظم