قراءات إسرائيلية لانتفاضة الكل الفلسطيني
أمير مخّول | فلسطين
لا تزال تداعيات هبّة الكرامة في الداخل الفلسطيني في ايار 2021، والمتزامنة مع معركة سيف القدس، ومآثر الصمود الشعبي في الشيخ جراح والأقصى، تشغل المؤسسة الصهيونية الحاكمة بكل أجهزتها، معتبرةً أنّ هذه الاحداث قد خلقت حالة استراتيجيّة لم تكن قائمة قبلها، وليست في صالح اسرائيل ولم تقع ضمن تقديراتها ومخططاتها.
بناءً على تقديراتها الذاتية، فقد خسرت دولة الاحتلال عدداً من مركبات استراتيجيتها الأمنيّة والعسكرية والسياسية على السواء، وفي مقدمة ذلك تعثرت استراتيجية ما يطلقون عليه “المعركة بين الحربين” وغائتها تحقيق الاهداف دون التورط في حرب شاملة، وفقدت القدرة على التفرّد بالجبهات وفك الارتباط ما بين المجموعات الفلسطينية المجزّأة جغرافياً مع القضية الفلسطينية الواحدة، كما وفَقدت القدرة على نقل الحرب الى “ارض العدو” بل بدأت سيف القدس من القدس حين انطلقت الصواريخ من غزة على أهم رمز سيادي في الاعتبارات الاسرائيلية الصهيونية واليهودية. ثم أنها تفاجأت بكل أجهزتها من الدور الذي لعبه فلسطينيو ال48 وبالذات في المدن الساحلية نظراً لمكانة هذه المدن وللاحتكاك القائم فيها مع المجتمع الاسرائيلي واسقاطات ذلك عليه دمغرافياً وحتى أمنيّاً، كما وفقدت احتكارها لعنصر المفاجأة في الحرب.
لم تكن التحليلات الاسرائيلية لهبّة الكرامة ضمن التقديرات والقراءات التقليدية فحسب، بل شهدت مناحيَ جديدة، وعلى الأقلّ لم يجر الحديث عنها جهاراً من قبل، وهناك منظومات لا تبحث هذا الشأن في العادة، وبالذات الجيش، آخذاً اياها بحساباته في أية حرب قادمة ومُطلقاً حتى مناورات عسكرية تحاكي حرباً شاملة وتدعى “عربات النار” وتشمل التدريبات ضمن ما تشمله، كيفيّة التعامل عسكرياً مع فلسطينيي الداخل سواء المدن الساحلية ام المثلث ام النقب وكل البلدات والتجمعات القريبة من الطرقات الرئيسية والقواعد العسكرية ومحاور نقل الجنود والعتاد، وهي تعكس من ناحية مركّبات التحدي المستجدة. كما وتنطلق هذه القراءات من العقيدة الراسخة بانعدام أية نوايا للتوصل الى حل مع الفلسطينيين، وهي الاقرب الى ذهنية رئيس الحكومة الحالي بنيت والذي مهما قيل عن ضعفه وهشاشة حكومته، الا انه اعتمد مبدأ اللا-حل وانكار قضية فلسطين، وتعميق الاحتلال وتعزيز الطابع الديني للصراع منطلقا من عقيدة ارض اسرائيل الكاملة، والذي بات المُوجِّه الاساسي لكل السياسات، وبخلاف معيّن مع سلفه نتنياهو فهو غير مكترث في ذهنيته لا للراي العام العالمي ولا لتوصيات المؤسسة الامنية الاكثر “واقعية” منه.
ثم أن هذه التدريبات قد تشمل بلدات ومدننا فلسطينية في الداخل وحصريّاً أم الفحم ومنطقة وادي عارة والمثلث الجنوبي، وهي المناطق المرشحة في الذهنية الصهيونية المركزية لمشروع “التبادل السكاني” مع المستوطنين في حال اضطرت اسرائيل الى اجراء مثل هذا التبادل. ثمّ أن مجلة “معرخوت” المعنية بالشؤون العسكرية والقتالية والصناعات الحربية قد خصصت مساحة لمناقشة من قبل كبار الضباط في الاحتياط لمسألة “القلاقل في المدن المختلطة” ويقصدون الساحلية وبالذات مدينتي اللد وعكا كنموذج، إذ اعتبرت أن من شأن هذه الاعمال ان تضعف تجنّد جنود الاحتياط للحرب، واعتبرت انّ الجنود في حالات مواجهات في داخل المدن بين العرب واليهود سيفضّلون البقاء مع عائلاتهم واهاليهم لحمايتهم من “هجومات العرب” بالإضافة إلى أنهّا سوف تشتّت انتشار القوات العسكرية. كما واعتبرت أن إغلاق العرب للطرقات الرئيسية في النقب سيعني اغلاق مداخل القواعد العسكرية المجمّعة في هذه المنطقة والتي أقيمت جميعها على أراضٍ عربية مصادرة بجانب القرى غير المعترف بها، والتي بات التعامل مع سكانها الفلسطينيين كغزاة. ففي حين اغلق هؤلاء السكان الطرقات احتجاجا على هدم البيوت ومشاريع الاقتلاع والتطهير العرقي ولحماية وجودهم، نظرت اليهم الدولة من الباب العسكري للاحتجاج المدني، ولذلك وحسب ذات المصدر قرر الجيش تخصيص وحدات عسكرية خاصة لحماية محيط القواعد العسكرية والطرقات الرئيسية، على شاكلة قوة رد سريع.
تحت عنوان “في حال تكرر الامر” بالاشارة الى هبّة الكرامة التي تزامنت مع سيف القدس او الجدار الواقي، ، وفي مقال بالعبرية يدعو ياغيل هانكين، وهو عضو المدرسة للدراسات العسكرية في الكليات العسكرية وزميل في معهد يروشاليم للاستراتيجية والأمن، الى أن كل نظرة الى معركة السور الواقي بصفتها سلسلة من الاحداث المنفردة، فهي مخطئة. واذا ما حدث بنظرة مستقبليّة وتمّ التأخر في بداية الاستعدادات، ولا يتم الادراك بأن المعارك المعاصرة تتميز بخط جبهة غير واضح المعالم بما فيه داخل الدولة، وبأنّ الجولة القادمة هي مسألة أمن قومي قد تجبي من اسرائيل ثمنا أعلى بكثير”. بينما يؤكد نائب رئيس الاركان السابق الجنرال يائير غولان وفي مقال له في معرخوت بأنّ عهد المعارك المحدودة والتي تميّزت “بفجوات هائلة في القدرات بين اسرائيل واعدائها، قد ولّى”. وان على الجيش الاسرائيلي استعادة مبدأ الحسم ونقل الحرب بسرعة الى ارض العدو من خلال الدخول البرّي. ويحذّر الجنرال احتياط يتحساق بريق من من قدرة العرب الفلسطينيين في الداخل وبالذات في المدن الساحلية والنقب ووادي عارة على تشويش أداء الجيش في الحرب وسرعة تحرّكه في حال تعدد الجبهات داعياً الى اتخاذ خطوات من قبل الجيش لمنعهم من القيام بذلك، ومن الشرطة والشاباك للسيطرة السريعة على أية قلاقل. بينما، وعشية انهاء مهامه، يحذر الجنرال ايتسيك ترجمان رئيس شعبة التكنولوجيا واللوجستيات في الجيش من أن “ألقلاقل العنيفة تشكّل احتمالات جديّة للتعطيل على القوات العسكرية” ولذا دعا الى استغناء الجيش عن طريق رقم 65 اي طريق وادي عارة. إنّ هذه النقاشات رغم اختلاف وجهات النظر، الا انها تؤكد على أن سلوك الفلسطينيين في الداخل بات مسألة يٌنظَر اليها بمفاهيم التهديد العسكري.
جرت أحداث هبّة الكرامة الشعبيّة الشاملة في عصر الاستخدام الشعبي وبالذات الشبابي الاوسع لوسائل التواصل الاجتماعي التي عوّضت عن التواصل الجغرافي المشتت قسرا، وعن الانقسام الفلسطيني الذي يشقّ الشعب ومشروعه التحرري. لقد باتت ادوات التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي سيّدة التحكّم، ولا تملك منظومات القمع الصهيونية ادوات متطورة اكثر لدرجة تُمَكّنها من محاصرتها. كما وانتصرت هذه الادوات الشعبية على المنظومة الاعلامية الاسرائيلية المدججة بالصحفيين وباسلحة الاعلام القهري.
بدوره، استفاد جهاز الامن العام الشاباك والشرطة من “طواريء الكورونا”، ومن ضمن ذلك اتساع غير مسبوق لنطاق التعقّب وتحديد أمكنة تواجد الناس وكذلك الرقابة على الهواتف، ناهيك عن دخول قوات الجبهة الداخلية في الجيش الى معظم التجمعات الفلسطينية في الداخل، وإذ نبّهت أصوات من امكانية استغلال هذا الحضور لاغراض أمنية وحتى عسكرية وأنّ هذا الحضور يشكل نوعا من المناورات في كل بلدة وبلدة. على الرغم من ذلك فقد نبّه قادة الشرطة بأن عجزهم عن التحكّم بوتيرة انتشار الهبّة الشعبية وتزامن الاحداث في عدة مواقع متباعدة الى قدرة الحراكات الشبابية على التحكم بالادوات المذكورة من التيكتوت والفيسبوك والانستجرام والواتساب. وبات مفهوم التحكّم بوتيرة الاحداث متكافئا اكثر من ذي قبل. بل أنّ قيادة الشرطة تؤكّد حاليا انه لن يكون بوسعها السيطرة على الاضطرابات في الداخل في حال اندلعت في حالة حرب.
المستعربون الافتراضيون
كما حدث خلال ايام الهبّة ان قام الجهازان المذكوران بتعقّب الاتصالات بين الشباب الفلسطيني في عدد من الحالات، وحتى أنه شاهدنا ظاهرة ممكن ان نطلق عليها “المستعربين الافتراضيين” وقد جرى من خلالها اختراق مجموعات واتساب لشبان عرب فلسطينيين ومناداتهم للتواجد في نقطة معية في حي وادي النسناس في حيفا، ليكتشف الشبان بأنّ الشباك قد اخترق المجموعة الافتراضية وقامت قوات من الوحدات الخاصة باعتقالهم على الفور.
هناك تحوّلات عميقة في التعامل الاسرائيلي مع الفلسطينيين العرب مواطني الدولة، باعتبارهم جبهة قتال في اية حرب قادمة. ولقد اقرت الحكومة الاسرائيلية ووزارة الامن اسناد الشرطة في المواجهات القادمة بقوة متكاملة من قوات “حرس الحدود” المدربة عسكريا، وذلك بقوة مقدارها 250 مجنّد من هذه الوحدات في كل مركز شرطة شرطة مناطقي، مع امكانية تنقلهم من منطقة الى اخرى حسب التطورات. كما أقر وزير الامن نقل مستقبلي لوحدات عسكرية تقدّر بألفين وخمسماية جندي من الضفة الغربية الى اسناد الشرطة في المستقبل وحماية الطرق الرئيسية، هذا اضافة الى دور الشاباك في المراقبة والضبط وقراءة مؤشرات التحولات بين الفلسطينيين العرب.
أدوات الحرب الهجينة
بناء على ما خسرته اسرائيل من مواطن قوة، فقد بدأت تنحو منحى مغايراً لما سبق ايار 2021 وهو باعتماد اساليب الحرب الهجينة وتعدّد الجبهات وتداخلها، وتعدد أذرع مواجهتها. وعدم ارتهانها فقط للجيوش وللعمليات القتالية. وبدأت بمراجعة العلاقة ما بين منظوماتها، لأنّ مثل هذه الحرب تقوم على البعد التكاملي بين الاذرع المختلفة للدولة وفي كافة المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية والاعلامية والتنسيق الامني والمدني والتهدئة والتشغيل وتصاريح العمل، وحتى في ادخال حزب عربي فلسطيني الى الائتلاف الحاكم وشقّ الوحدة الوطنية بين فلسطينيي 48. كما قامت المؤسسة الحاكمة وبـعلى مستوياتها بتحريض المجتمع الاسرائيلي ليس سياسيا فحسب، بل على اعمال الاعتداءات الدموية و”اللينش” والانتقام واستهداف العرب الفلسطينيين عندما تحين الساعة بما في ذلك نشوء ميليشيات رسمية وغير رسمية.
كما تسعى دولة الاحتلال الى التصعيد العدواني بوتيرة تسعى لاستنزاف كل جزء من الشعب الفلسطيني، والسعي الى ابقاء الجبهة الأصعب مع غزة هادئة، وذلك تحت مسمَّيات التهدئة والهدنة وسياسة تصاريح العمل. ولذلك نشهد تعميقا للاحتلال لكن بوتيرة مضلِّلة، وعلى سبيل المثال التغيير الملموس الحاصل في اقتحامات اليهود للأقصى، والذي يحصل بوتيرة تصاعديّة ثابتة، وكذا الامر مع منطقة مَسافر يطّا وسياسة التطهير العرقي وتقاسم الادوار وتكاملها بين جيش الاحتلال ومستوطني الاحتلال.
عنصر المفاجأة
رغم كل التقديرات والمخطّطات الاسرائيلية سواء الاستراتيجية بعيدة المدى أم التكتيكية الجارية، والحديث عن الجهوزية العالية، فقد كان لافتاً التكرار الأسرائيلي لمفهوم “تفاجأنا” ، هكذا في هبّة الكرامة، وفي سيف القدس، وفي نفق الحريّة، وفي العمليات في المدن الإسرائيلية، وكلّها مؤشرات لتراجع حالة السيطرة والقدرة على الضبط، وهذا كله من الدلائل على على إخفاق المشروع الصهيوني المركزي في تجاوز قضية فلسطين، وهي نقطة قوة يجب أن لا تغيب فلسطينياً.