التطبيع والأسرلة.. الموقف والإشهار والتوائم والبويضات!
سعيد نفّاع | الأمين العام للاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين- الكرمل 48
يتواتر الاشتباك حول التطبيع كلّما حدث أن زار البلاد قادم “نخبويّ” من العربمن خارج ال48، سيّاسيّا كان أو ثقافيّا، أو تعامل مثلُ هذا مع جهة وأيّة جهة في إسرائيل مباشرة أو لا مباشرة.أسماء وأفعال عدّة في الجعبة كانت موضوع هكذا اشتباكٍ في العقود الأخيرة،والقضيّة الأساسليست الأسماء وشكل أفعالها وإنّما آليّات ومرجعيّات النقاش فيها ووجهتها.
يختلط الحابل بالنابل ويسود الخلط كلّما اشتبك موضوع التطبيع في حدث تبادليّ العلاقة فيما بيننا، نحن الأقليّةَ العربيّة الفلسطينيّة و\أو فلسطينيّي البقاء (ال48)، وبين امتدادنا الوطنيّ الفلسطينيّ وامتدادنا القوميّ العروبيّ.
كنت على المستوى الشخصيّ تناولت هذا الموضوع سابقًا،حين وقع مثل هكذا اشتباك،وتحديدًا في شباط 2015 بمقالة حملت العنوان: “التطبيع والفاعل والمفعول معه”، وسأضمّن معالجتي هذه بعض ما جاء في المقالة حين يحوجني السياق وإنْ ببعض تصرّف في الصياغة لا في الجوهر.
لا نجدّد بل نؤكّد حين نقول: إنّ التطبيع (جعْلُ ما هو غير طبيعيّ طبيعيّا)، مُصطلح أُطلِق ويُطلق على إقامة أيّة علاقة افتراضيّة أو فعليّة بين العرب عامّة والفلسطينيّين خارج ال48 خاصّة (الفاعل)، وبين كلّ ما في إسرائيل ومع كلّ من في إسرائيل (المفعول معه).كان اعتُمد هذا المصطلح بعد “اتفاقيات السلام” مع مصر، وتجذّر أكثر بعد اتّفاقيّة أوسلو بين منظّمة التحرير الفلسطينيّة وإسرائيل،ومن ثمّ مع السلام مع الأردن. “الفاعل- المحفوظة له الحقوق على المصطلح” هم نخب سياسيّة ونقابيّة وثقافيّة في البلدان أعلاه، ونخب في بقيّة من العالم العربيّ فتحت دولُها أبوابها لإسرائيل وفي الخفاء المُعلن وبلا اتفاقيّات سلامرسميّة مُبرمة. هؤلاء وأولئك لاقوا الظهير الشريكقولًا وفعلًا في بقيّة العالم العربيّ الأرحب، وأيضًافيما وراء العربيّ ووراء وراء العربيّ.
نحن الأقليّة العربيّة الفلسطينيّة في ال48 وجدنا أنفسنا في سياقالتطبيع جزءًا من “المفعول معه”، امتدادًا نابعًا عن وعْي أو عن لا وعْي،لرواسب النكبة وصولًا إلى العام 1967م حين كانت الشبهات تحوم حولنا حدّ الخيانة، مُحمَّلين وزر بقائنا (!) وما ترتّب عليه حياتيّا؛ وطنيّا وسياسيّا واجتماعيّا وثقافيّا. بعد ال1967 ورغمها بقيت بعض الأطر العربيّة والأفراد، ولكنّهم، ولحسن الحظّ، بعض قليل، يرون أنّ أيّة علاقة معناتشوبها الشوائبُانطلاقًا من ضيق أفق أو عمىً أومزايدة،وحين رأى النور هذا المًصطلح “الحداثيّ\التحديثيّ”؛ التطبيع، ظلّ هذا البعض يرى في أيّة علاقة معنا شائبة وإن اختلفتتسميتها، وصُنّفت العلاقة معنا تحت التصنيف الجديد؛ التطبيع.
بغضّ النظر وبمعزل عن هذا البعض وما يطرح، واجبنا الوطنيّ والسياسيّ والثقافيّ أن نتذكّر،حين يقع الاشتباك وبمعزل عن الاشتباك، أنّ للتطبيع توأمًا،وإن كان غيرَشبيه كونُه من بويضة أخرى، ألا وهو “الأسرلة”. وهذا، كمُصطلح،يعني التماهي مع المؤسّسة الإسرائيليّة وأطروحاتها تجاهنا حدّ ضياع التمايز أو التمييز بين حملنا الجنسيّة الإسرائيليّة وما يترتّب عليها من علاقات مع المؤسّسة، وحملنا الهويّة العربيّة الفلسطينيّة وما يترتّب عليها من استحقاقات في التعامل مع المؤسّسة؛ فكريّا وسياسيّا واجتماعيّا وثقافيّا.
أجزم وعلى ذمّتي، أنّه وبعد النكبة في ال1948، كان هنالك من أهلنا الفلسطينيين في مخيّمات اللجوء من يرفض أن يستمع إلى برنامج “سلاما وتحيّة” والتي كانت تبثّه الإذاعة الإسرائيليّة، إذ كان يجول مذيعوها في قرانا العربيّة حالّين ضيوفًا على المخاتير بعد أن يكون “الناطور” أعلن قبل أيّام حضورهم، ليلتمّ الكثيرون ممن تبقّى منّا مُمنّيًا النفس أن تتاح له فرصة أن يُرسل عبر “أثير دار الإذاعة الإسرائيلية” سلاما وتحيّة لمن شُرّد من أهله، ومن منّا نحن الكنّا صغارًا من لا تزال محفورة في قاع مخّه الجُمل سيّدة الموقف ولازمة الرسائل: “سلامي إلى ….. مجهول محل الإقامة” و-“نشكر الإذاعة الإسرائيليّة التي أتاحت لنا هذه الفرصة”.
من نافل القول إن لهذا “الكرم الحاتميّ” عند المؤسسة الإسرائيليّة كان ما يبرّره خبثا، وأكيد أنّه لم يخطر حينها على بال المشرّدين من أهلنا أن الاستماعَ إلى البرنامج يُسمّى تطبيعًا، إذ من المؤكد أن هذا المصطلح لم يكن في قاموس توصيف العلاقة معنا أو مع إسرائيل، ولكن من المؤكد أنّ قسمًامنهم وجد لمقاطعة برامجها وحتّى هذا البرنامج ألف سبب وسبب ولو أنّ الامتناع أفقدهم نعمة سماع بارقة حياة لأحبتهم، هذا طبعًا إذا افترضنا أنّهم ملكوا حريّة الاختيار في بلاد اللجوء في هذه وفي غيرها استماعًا وامتناعًا. وأكيد أنّ بعضًا ليس بقليل منّا نحن الباقين رفض “النعمة” (!) التي أتاحتها له دار الإذاعة الإسرائيليّة وليس في مواجهة الأسرلة إذ لم يكن هذا المُصطلح دخل قاموسنا، ولكن وجد أولئك مئة سبب وسبب لذلك ولو صمتًا لا جهرًا خوفًا.
ما كان يمكن أن يخطر على بال أيّ كان أنّ يلطَخ من اختار من مشرّدينا الاستماع بأنه يقوم بعمل تطبيعي، تماّما مثلما لم يكن ليخطر على البال أن يُلطخ بالأسرلة من اختار أن يستعمل الإذاعة وسيلة، فالتطبيع والأسرلة مصطلحان حديثان والأهمّ وليدا ظرف اختياريّ لا جبريّ والظرف حينها كان جبريّا لا اختياريّا، يعني: “ما الذي أجبرك على المرّ؟ الأمرّ!”.
لم يترجّل التطبيع طوال الأربعة عقود ونيّف من عمره عن جدولنا يومًا، ولكنّ الاشتباك حولهيعلو وينخفض حين تقع واقعةً، فمثالًا، علا بزخمٍ عشيّة وغداة الأمسية التي أحياها شاعرنا طيب الثرى محمود درويش في حيفا تلبية لرغبة محبيه مستثمرين وجودَه على هامش زيارة لأمّه المريضة أواخر أيّامها،وعلا بعدها كثيرًا بين مدّ وجزر،وعاد ليطفو يوم زار الناصرة الفنان التونسي لطفي بُشناق،وكذا يوم زار الروائي الجزائريّ واسيني الأعرج كليّة القاسمي في باقة الغربيّة وسط اصطفاف مستقبلين كُثر منّا، ومؤخّرًا طفا حول ظروف وحيثيّات ترجمة رواية تونسيّة إلى العبريّة تحت مظلّة دار نشر عبريّة. باختصار، التطبيع لم يترجّل عن جدول أعمالنا منذ رأى النور، غير أنّ الاشتباك حوله يقع كلّما “دقّ الكوز في الجرّة!”.
السؤال في سياقناهو:أين نحن في ال1948 من التطبيع سلاحًا؛موقفًا وإشهارًا؟
المُلفت الغريب كان، وهذا ما وراء المقالة هذه، أنّا وجدنا أنفسنا وسلاح التطبيع يخبط فيما بيننا خبط عشواء، وراح نفر ليس بقليل منّا ينتحل وحين يقع اشتباك موقف “الفاعل” وهو أصلّا وفي أضعف الإيمان جزءًا من “المفعول معه”، بمعنى يرفع عقيرته ضدّ التواصل؛ الزيارات وكذا الأفعالِوسلاحه المُشْهر:التطبيعُ، مسدّدًا إيّاه ضدّ المُطبّع من الخارج وضدّ المستقبِل من الداخل وعلى حدّ سواء!
التطبيعسلاحلصُنّاعِه من العرب والعرب الفلسطينيّين خارج ال1948، ولسنا نحن من يقرّر أو يصنّف عملًا ما بأنّه تطبيع أو ليس تطبيعًارغم وحدة الانتماء الوطنيّ والقوميّ والأهمّ الانتماء بالموقف لقضيّة القضايا؛ القضيّة الفلسطينيّةقضيّتنا الذي صُكّ هذا السلاح أصلًا حماية لها، وكم بالحري أن نمتشقه فيما بيننا.
واجبنا نحن “الثماني أربعيّين” هو تبنّي الموقف المؤيّد لل”فاعل” بالمبدأوكذا الموقف الفاعل في الحالة العينيّة التي يحدّدهاالفاعل،والأخذ بما يترتّب عن هذا التأييد من فعل ضدّ التطبيع والمُطبّعين من لدُنهم. وأمّا بالنسبة للشركاء من عندنا داعين كانوا أو مُستقبلين أناسًا مُطبّعين و\أو في فعلهم تطبيع، ومتواصلينأو متعاونين مع مطبّعين، فمواجهتهم هي بسلاح الأسرلة،فهو السلاح الذي يجب أن يُشهر في وجوههم، هذا هو سلاحُنا صحيح الاستعمال والحادّ ضدّهم، لا سلاح التطبيع.
هذا الفارق بيننا وبينهم في خاصيّة سلاح كلّ منّا في مواجهة العلاقة مع إسرائيل والمؤسّسة الإسرائيليّة، ليس شكليّا بل جوهريّا ولو من باب أنّالعمل أو الفعل الذي يعتبرهما “الفاعل” عملًا تطبيعيّاومدعاة لاتّخاذ موقف ممّن يمارسهما من لدنهم، نحن نمارسهما (العمل والفعل) أو نمارس أشباههما صبح مساء بحكم وجودنا. فعل هو تطبيعيّ بالنسبة للمتواصل العربيّ ليس شبيهه بالنسبة لنا فعل أسرلة بالضرورة، ولم يُحسم فيما بيننا حتّى الآن أيّ الأفعال أو الأعمال تتعدّى حدود حتميّة الوجود لتوسم بالأسرلة وأيّه لا تتعدّى الحتميّة الوجوديّة لتوسم بالمُتاحًة، والاجتهادات متعدّدة تتقاطع وتتقابل مضمونًا وشكلًا.
الأمثلة كثيرةٌ، ولكنّ المثال الصارخ العينيّ هو ما يُسمّى “جائزة الابداع أو التفرّغ” المُعطاة للكتّاب والشعراء والباحثين العرب من قبل وزارة الثقافة، وهي جائزة ماليّة عينيّة بلغت قيمتها العام 2020م قرابة ال- 15,000 دولار، مرفقة بجائزة رمزيّة على شكل شهادة موقّعة من قبل الوزارة و\ أو ممثّلها رئيس لجنة المِنح.هذه الجائزة تعطيها وزارة الثقافة للكتّاب والشعراء “العرب وغير العرب من غير اليهود” بناء على ترشّح لها من قبل الكاتب أو الشاعر نفسه.
كثُرٌ من كتّابنا وشعرائنا ومن الصفّ الأوّل، رشّحوا أنفسهم وأخذوها لا بل وبعضهم أكثر من مرّة، وبعض آخر احتفل بها واستقبل المباركات (وتسويغهم على الغالب هذا حقّ لنا!)، ولكنّ غيرهم، وهم قلّة، رفض الترشّح ويرفضه ولم يقبله ولا يقبله “لا من باب ولا من طاقة” بمجرّد كونها معطاة من قبل المؤسّسة، ولعلّ أبرزهم الشاعر الكبير طيّب الثرى والذكر سميح القاسم، وكثُر ممّن ما زالوا أحياء يُرزقون ويبدعون.
مجرّد التفكير في أن تمنح المؤسّسة الصهيونيّة بذراعها المتمثّلة بوزارة الثقافة جوائز لكتّاب أو شعراء امتشقوا كلّ حياتهم كلمتهم سلاحًا ضد الصهيونيّة وأذرعها المختلفة، يوردك المقولة: “وراء الأكمة ما وراءها”وأكثر العاميّة المتداولة: “كُثرته مش لله!”. وأصلالأخيرة، أنّ مُصلّيًا كان يبادر خوريّا بعد كلّ صلاة قائلًا: “قنطار مسك في ذقنك يا أبونا”، ليجيبه الخوري: “باركك الرّبّ يا ابني”، وتكرّر الأمر صلاة بعد صلاة، فما كان من الخوري إلّا نادى المصلّي قائلًا: “يا ابني ذقني يكفيها القليل من المسك وليست بحاجة لقنطار، فكُثرتُهْ مش لله! فما هو غرضك؟!”. وكُثر الكرم هذا من وزارة الثقافة ليس لله، وكثرة الجري وراءها من قبلنا ليس حاجة وجوديّة!
الرّفد الثقافيّ النقيّ المتبادل بيننا هنا (1948) وهناك (1967) وهنالك (الشتات والعالم العربيّ)، هو ليس حاجةّ تبادليّة فحسب هو مكوّن هامّ في كينونتنا الحياتيّة وفي صلبها الثقافيّة، وكذا التصدّي لكلّ ما يُعيب نقاءه؛ التطبيع والأسرلة. أكبر رفدٍ وأقواه تستطيع أنت “الثماني أربعينيّ” أن تعطيه لرافعي سلاح “التطبيع” هو دعم الموقف من ناحية، ومن أخرى والأهم أن تحصّن نفسك في وجه “الأسرلة”، وأنت أيّها الفلسطينيّ المشرّد، والمحتَل، والعربيّ عامّة،فإنّ أكبر رفد تستطيع أن تمدّنا به هو مدّ الجسور معنا سدّا في وجه الشقيق التوأم للتطبيع، وإن لم يكن كما أسلفنا شبيهًا من نفس البويضة، الأسرلة. إن كنت فلسطينيّا وكم بالحري مشرّدًا فلا بأس إن كان الجسر، جسر التواصل، باتّجاهين، اتّجاه لك إلينا واتّجاه لنا إليك وأينما كنت،وربّما على هامش التواصل تتواصل مع أطلال قريتك أو بلدتك وحجارة بيت أهلك بين صبّارها، وإن كنت عربيّا فجسر باتّجاه واحد من هنا إلى هناك!
التواصل هكذا وبين المقيمين على طرفيّ الجسر، كلّنا بحاجة إليه لرفد واحدنا الآخر بمواطن قوى سياسيّة وأكثر ثقافيّة، خصوصًا وأنّهأقيمت فيما بيننا جدران عزل مرصوصة البنيان كنّا وما زلنا بأمس الحاجة لدكّها، فالتواصل بيننا كأبناء أمّة سياسيّا وثقافيّا وفي الاتجاهين اللهم مع الاختلاف في خطوط الاتّجاه، هو ضرورة وحاجة لازمتان وبالذات على ضوء وضعنا الخاص، وهو رافد قوّة وتحصين يجب أن تصغر في سبيله الكثير من الادعاءات الأخرى على صحتها النسبيّة، وما يصحّ لنا هنا ليس بالضرورة أن يصحّ لامتدادنا، ولذا فموقفنا يجب أن يكون منطلِقا من ربوع قرانا المهجرّة، وليس بناء على ما يصدر من الصالونات في القاهرة كانت أو في عمّان أو الرّباط مع الحقّ الكامل لرُوّادها في الخيار والموقف، اللهم إلّا عندما نكون نحن وقضيّتنا موضوع الموقف.
التطبيع في سياقنا هو فعل يخصّ “الفاعل” ونتاج ظروفه، وكوننا “المفعول معه” وإن اتفقنا مع هذا الفعل أم اختلفنا معه لا يمكن أن يكون ومسوغاته، وفي الحالين؛ الاختلاف والاتفاق، مرجعا أو مصدرا لأي موقف نتخذه من وفي الموضوع. مرجعنا ومصدرنا لبناء موقفنا هما وليدا ظروفنا ومنهما يُختزل الموقف بغض النظر إن كان مع الزيارات أو ضدّ الزيارات و\ أو مع التواصل أو ضدّ التواصل ومهما اختلف لبوسُه، وفي كل الأحوال مصطلح التطبيع ليس المسوّغ ولا يمكن أن يكون المرجع والمصدر للموقف الذي نرى أن نتّخذ في المعادلة القائمة بيننا هنا في الداخل.
الواجب الوطنيّ يحتّم علينا التأييد والشدّ على أيادي رافعي سلاح التطبيع في الموقف، وأضعف الإيمان ألّا نمدّ “البسط الحُمر” للخارجين عن الموقف وتحت أيّ اعتبار، وأن نحصّن ثقافتنا هنا من كلّ ما يلطخها بالأسرلة.
هذان وكما أسلفنا توأمان وإن من بويضتان، غير أنّهما لا يعيشان إلّا إذا تركنا لهما مراتعنا مشاعًا يمرحان فيها على هواهم!