العجوز والعروس.. قصة قصيرة    

شوقية عروق منصور | فلسطين

كلما أردت إثارة غضبه وسماع بعض شتائمه المحببة المتوهجة بالعبارات الغريبة التي تثير الخيال وتدفع المرء إلى الضحك أقوم بفتح صندوق كنز ذكرياته، والمفتاح السحري للصندوق اسم زوجته.

 هو يملك في ذاكرته الصناديق الضخمة من الصور والأغاني التراثية والحكايات عدا عن تجربته الغنية في الحياة، لكن حكايته مع زوجته كانت القصة التي يلعنها ويثير خلفها غبار الندم ويصرخ بأعلى صوته ” آخ ” من عمق صدره، الذي أنهكه شرب الدخان وحطمت أضلاعه الأمراض التي غزت جسمه، لكن لم  تجد في جلده مأوى يستحق الغزو، بل وجدت في عظامه خاصة أضلاع صدره، القلاع التي تتحصن بها، وكأن تلك الأمراض أقسمت أن تزرع في الأضلاع الأوجاع والآهات الليلية، ولا تبتعد تلك الأوجاع إلا عندما يقص الحكايات التي عاشها أو التي سمعها من والده وجده، أما قصته مع زوجته فهي القصة التي كلما سأله أحدهم عنها يشتم ويلعن بأعلى صوته ” يلعن هديك الساعة ” .

زوجته العجوز لم تهتم للغمز واللمز وقصتها التي سئمت من سماعها، وتؤكد للجميع مهما حكى هذا العجوز الخرفان، يكفيها العائلة اللي أسستها.. يكفيها الشباب المتعلمين اللي جابتهم وربتهم أحسن تربية، هو فاضي وعامل قاضي، شاطر بالحكي وتفصيل القصص .

الزوج العجوز لا يكف عن الشكوى ويعتقد أن القدر قد قام بخيانته بهذه الزوجة، بل أضاف للخيانة قلة الحظ في الحياة، حيث التصق به الفقر حتى اليوم  الذي لم يعد بعيداً عن القبر .

– شو عمل أبو مرتك فيك؟ سألته وأنا أحاول إخفاء ابتسامتي .. !!

كأن فوهة البركان كانت مسدودة بورقة.. ما إن هبت رياح السؤال حتى طارت الورقة وثار البركان..

قال بغنوا … قال كانوا يغنوا …!!

يا ريتك مباركة علينا علينا ..

وتبكري بالصبي ويلعب حوالينا ..

أي صبي .. وأي لعب … آه .. أه ..

كنت واقفا وراء الباب… سمعت النسوان بقولوا… أجا العريس … أجا العريس ..!!!

من بين مسامات الطرحة البيضاء شوفت وجهها… مسكتني أمي وجرتني لنص الغرفة، شفت حالي بارقص مع النسوان قريباتي.. خواتي وعماتي وخالتي والكل فرحان.. جابوا العروس وأجبروني على الإمساك بإيدها، العروس بتلف معي والطرحة على وجهها.. أعترف أني ما بعرفها منيح… لكن شوفتها هي تملي عند العين، أعجبتني.. حكيت لأمي عنها فوافقت، فعلاً تمت الخطبة وكنت أراها من بعيد لبعيد، كنت أخجل احكي معها .

تعبت من الرقص وشعرت بالاختناق، طلبت من النسوان إني بدي أقعد جنب العروس التي جلست قبلي على الكرسي الذي وضع على طاولة.. وقبل أن أجلس جاءت والدتي وطلبت مني كشف الطرحة عن وجه العروس .

 ما أن رفعت الطرحة عن وجهها حتى صعقت.. إنها ليست المرأة التي اخترتها وقبل أن أخرج من ذهولي ودهشتي، أمسكت أمي برأسي وبرأس العروس وخبطتهما ببعض، شعرت أن رأسي قد اصطدم بصخرة وليس برأس امرأة. وأشار العجوز إلى مكان الضربة، ثم أضاف قائلاً: شعرت أن العالم قد ضاق بي والنار قد شبت في شراييني، عندما حاولت شقيقتي أن تجبرني على الشرب من إبريق الفخار الذي جهزته للعروسين، لم أجد أمام طلبها إلا ويدي ترمي بالإبريق على الأرض، لقد سمعت صوت تحطيمه ورأيت الماء المسكوب المخلوط بالسكر بين أقدام النساء يتسلل هارباً، متشعباً نحو أنحاء الغرفة.

 كان يعتقد أن شرب الماء المخلوط بالسكر يجعل حياة الزوجين حلوة.. لكن أنا حطمت هذا الاعتقاد بتحطيم الإبريق، عندها رأيت العيون الجاحظة أمامي الشاخصة نحوي بطريقة تتهمني بالجنون والفجور .

تلك اللحظة  كنت مجنوناً، حتى في مرتبة أعلى من الجنون لأن الخديعة كانت أكبر من عقلي واحترامي للموقف، وبينما  كنت أشتم وصوتي يعلو فوق أصوات الغناء حاولت العروس أن تقوم عن الكرسي الموجود فوق الطاولة بسرعة، وإذ بالطاولة تهتز ثم تميل إلى اليمين وتسقط على الأرض، وبسقوط العروس على الأرض اكتملت الحكاية حيث أخذت تبكي وقد اكتشفوا بعد ذلك أن يدها قد كسرت بالإضافة إلى قدمها التي التوت، والتفت النسوة  حولها وكشفن عن وجهها ورأيت الكحل مخلوطاً بأحمر الشفاه والبودرة البيضاء مثل الشيد، والحول في عينها اليسرى جعلني أكمل صراخي،  لقد كانت بشعة.. وتحول العرس إلى حالة هدوء وهمهمة وهمس بين المدعوين والمدعوات حتى الصغار كانوا يتحدثون عن العريس الذي جُنَّ من فرحته .

هرع والدي وعندما عرف كيف تصرفت، ضربني لكن عمي الكبير أخذني بعيداً وقد شرح لي لماذا قاموا بتبديل العروس، والد العروس طلب مهراً كبيراً، وعندما وجد والد العروس أن والدك لا يستطيع دفع المهر، قال له يستطيع تزويج ابنته الكبرى بدون مهر، هي ليست جميلة وتعاني من حول في عينيها، لكنها ” معدلة ” تطبخ وتطرز وتملي مي.. ووافق والدك، أنه وفر ثمن المهر لتزويج ابنه الثاني .

أخذ والدي يتوسل وأعمامي وأخوالي طلبوا مني السكوت خوفاً من الفضيحة وتهكم الناس في القرية علينا.. حاولت البقاء على عنادي لكن كل شيء كان باسم والدي وأنا لا أملك شيئاً غير قمبازي .

 شعرت بالضعف أمام الاقارب الذين طلبوا مني العودة للعروس وحرام على الرز واللحم واللبن والمصاريف الأخرى التي دفعها والدي، هاي المرأة تعيش معها كم سنة، وفي المستقبل اتزوج غيرها… أختار المرأة التي أريدها .

عشت العمر معها .. كلما أردت التفكير في الزواج أنظر إلى أولادي الذين وضعوني في سجن الأبوة، لكن حتى اليوم أنا لا أطيقها ولا أستطيع العيش معها .

منذ زمن طويل لم أر العجوز وأسمع شتائمه الموجهة لحظه السيء، لكن عندما سمعت أن زوجته قد توفيت، قررت أن أزوره.. وكنت على يقين أنني سأراه فرحاً مبسوطاً، فقد تخلص من كابوس عاش فوق صدره سنوات طويلة، عاش معها رغماً عن أنفه وعلى حساب الخديعة، فوجئت بحزنه وبكائه.. يتغزل بزوجته وبخدمتها له وإخلاصها لبيتها وأولادها، هي سبب نجاحهم واستقرارهم وليس هو.. هو لم ينتبه لها، كان يندب حظه  ويلعن الأقدار، دون أن يشاركها في تربية الأولاد .. إنه الآن انتبه أن أولاده كبروا وأصبحوا هم أيضا آباء .

بعد أسبوع من وفاة زوجته توفي العجوز، لم يتحمل الجلوس لوحده، لقد كان وجود زوجته يمنحه الشعور بالظلم الدائم ويجد ببث شكواه وبخديعة زواجه التمتع والرضى النفسي والكسل وعدم التفكير، ولكن الآن بعد غيابها لن يتحمل البقاء صامتاً دون أن يجد ضحية له، يتحدث عنها  يلقي عليها سبب فشله الدائم وعجزه عن النجاح .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى