حجية الإيمان بين التقليد والنظر

 

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

المتأمل لآي القرآن الكريم ــ كما أمر القرآن ــ في أكثر من موضع عليه أن يعمل نظر العقل والفكر كما أٌمر، فقد جاءت آيات القرآن المسطورة تشرح آيات الكون المنثورة وكلها يفسر بعضها بعضا، وكلها دعوة صارخة شارحة للتوحيد والإقرار لله بخالص الربوبية والألوهية.. لذا جاءت آيات النظر في كل سورة تستنفر العقل وتلفت النظر وتنبه القلب إلى هذه الآيات البينات المنثورة المنشورة في الكون والكتاب..
وفي أنفسكم أفلا تبصرون”، “أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج”، “قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون”، “أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء ” ، ” أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت”، “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة” ، وغيرها من الآيات التي تحث على النظر الذي يقود للإيمان والتوحيد والإذعان .
وقد تقود تلك الآيات الكونية والقرآنية المرء إلى الإيمان والإقرار بالتوحيد، وهذا ما يطلق عليه أهل العلم “إيمان النظر والبرهان” الذي تولد من عقل وعلم ونظر كما أمر الله بقوله” فاعلم أنه لا إله إلا الله “، وهو أمر صريح بالتعلم ومعرفة الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وتوحيد الألوهية والربوبية، وقد بوب البخاري رحمه الله على هذه الآية في الصحيح باب “العلم قبل القول والعمل” موضحا أن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم ، كما قال الماوردي في تفسير الآية: “وفيه وإن كان الرسول عالما بالله ثلاثة أوجه:
الأول: يعنى اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله

الثاني: ما علمته استدلالا فاعلمه خبرا يقينا.

الثالث: يعني فاذكر أن لا إله إلا الله، فعبر عن الذكر بالعلم لحدوثه عنه”.. وقال ابن عباس: كونوا ربانيين حلماء فقهاء.. والرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
وتكلم بعض أهل العلم كذلك عن توحيد (العلم والإرادة)، وتوحيد (القصد والطلب)، أي لابد بعد علم التوحيد والإقرار لله به من توحيد القصد إليه والالتجاء في السراء والضراء، والسر والعلن، بمعنى صرف صنوف العبادة والعمل والدعاء لوجهه الخالص بعد تحقق العلم،كما قال الشاطبي رحمه الله ” العلم المتعبد شرعا هو العلم الموصل إلى العمل، والمقيد لصاحبه بمقتضاه الحامل له على قوانينه”.
وجاء في تفسير القرطبي في قوله “أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)”[الأعراف].:
مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ وَالِاعْتِبَارِ بِمَخْلُوقَاتِهِ. قَالُوا: وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَنْظُرْ، وَسَلَبَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِحَوَاسِّهِمْ فَقَالَ:” لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها” الْآيَةَ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوَّلِ الْوَاجِبَاتِ، هَلْ هُوَ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ، أَوِ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ الْحَاصِلُ فِي الْقَلْبِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ الْمَعْرِفَةُ. فَذَهَبَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي نَصَبَهَا لِمَعْرِفَتِهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ بَوَّبَ فِي كِتَابِهِ (بَابُ الْعِلْمِ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:” فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ «3») “. قَالَ الْقَاضِي: مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِاللَّهِ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَالْجَاهِلُ بِهِ كَافِرٌ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي مُقَدِّمَاتِهِ: وَلَيْسَ هَذَا بِالْبَيِّنِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَصِحُّ بِالْيَقِينِ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ لِمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِالتَّقْلِيدِ، وَبِأَوَّلِ وَهْلَةٍ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِمَا أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ. قَالَ: وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْبَاجِيُّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْعَامَّةِ وَالْمُقَلِّدِ مُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَلَوْ كَانَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ صَحِيحًا لَمَا صَحَّ أَنْ يُسَمَّى مُؤْمِنًا إِلَّا مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.”.
وفي صحيح ابن حبان لما نزل في آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .. الآيات [آل عمران: 190] قال صلى الله عليه وسلم: ويل لمن قرأهن ولم يتدبرهن، ويل له، ويل له”.

وهذه القضية التي عليها مدار القول والعمل في أكثر من حديث بين أهل العلم (إيمان النظر وإيمان التقليد)، قد تناولها الفلاسفة وعلماء السلف والخلف من بعدهم : هل يعتد بإيمان المقلد (العامي)، أم يجب قبل الإيمان النظر والاستدلال؟ وهل يجب معرفة الله بالدليل والبرهان، أم يكتفى في ذلك بالتقليد؟ ولمن يجوز التقليد إن جاز؟

وقد ذهب الكثير من أهل العلم والمفسرين ــ استنادا على الآيات التي ذكرناها ــ أن أول معرفة الله النظر والاستدلال كما جاء في آيات سورة آل عمران) السابقة، والتي توعد النبي صلى الله عليه وسلم بالويل لمن قرأت عليه ولم يتدبرها، وقد جاء في أكثر من موضع في القرآن آيات تذكر بالحكمة من نزول القرآن كقوله”كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب”، وهذا الجمع بين آي القرآن وآي الكون لم يكن عبثا ولا مصادفة، إنما كان عن حكمة وقدر وغرض أراد فيه خالق الكون ومنزل الكتاب أن يعرف خلقه عليه، ولذا وجب عليهم أن يفطنوا أو يفطن منهم (أولوا الألباب ) كما ذكر القرآن لما أراد الله أن يقول لهم ويوجههم إليه من المعرفة به والتوحيد والتعبد إليه بما شرع وحكم وكتب .

وليس هذا ببدع من القول عند أهل الإسلام ، فقد ذكر بعض الفلاسفة ك (ريتشارد سوينبرن) في كتابه “الإيمان والعقل” أن الإيمان بالبرهان والعقل” فقال: ومن ثم يحتاج الإيمان إلى تجديد براهينه وأدلته، فالمؤمن مطالب بالسعي لإمداد الإيمان بالقوة البرهانية للعقل، وكلما اعتمد الاعتقاد على البرهان ازداد قوة ورسوخا، والبرهان خاضع للإرادة، وإذا لم تمنح الإرادة للبرهان قوة فلن يمكن بناء تصور اعتقادي واضح للإيمان.

يتبع إن شاء الله ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى