قراءة في قصيدة ” قليلا من كثير عزة ” للشاعر عبد الرزاق الربيعي
د. أحمد جار الله ياسين | جامعة الموصل
قليل من الشعر كثير من الحب
“خُذي رئتي”
خُذي رئتي
وطوفي بين أوردتي
ونامي في ثنايا الروحِ
واسترخي على شفتي
خُذي ضوئي
وما أبقت لي الأيامُ
من نزفٍ بمحبرتي
في مقدمة القصيدة يتخلى الشاعر هنا رمزيا وبكرم كبير عن اثمن علامات وجوده التي تشكل فضاء حياته الحقيقية والابداعية (رئتي/ أوردتي/ ثنايا الروح/ شفتي/ ضوئي/ ما ابقت لي الأيام / محبرتي) لصالح الحبيبة المهددة بالغياب، وهذا التتالي المتواصل لتلك العلامات يأتي بإلحاح العاشق في سياق عرض التخلي السخي الذي يقدمه إليها ، لاسيما عندما يقدم لها منبع ابداعه (محبرتي) الا إنه قليل أمام ما منحته أياه من حب كثير ..
///
خُذي رئتي
خُذي بدئي وآخرتي
وسيري
أينما شئتِ
بروحي
طوّفيها الكونَ
من جهةٍ إلى جهتي
في المقطع الثاني يتواصل عرض الشاعر لثقافة الحب التي يمارسها بكرم كبير للحفاظ على تواصله مع الحبيبة حتى لو وصلت عروضه درجة التخلي عن حياته كلها من بدايتها الى آخرتها ، ويتوج عرضه السخي بتقديم الروح مستسلمة أمامها لتسير بها حيثما تشاء ..وكأنه بهذا الالحاح على الامكانيات شبه الاسطورية للحبيبة التي يثق بوجودها لديها نكاية بالمرض، يقلب الادوار فيكون هو في موضع المحنة وهي من بيدها الحلول العديدة لإنقاذه او بتعبير آخر للتواصل معه ولو بالموافقة على هذه المقترحات الشعرية المجازية، على الرغم من أن مقترحات الحلول أصلا قادمة منه اليها وهذا ما قصدناه بثقافة الحب القائمة على التماهي بين الطرفين حد أن تكون الـ (أنا : أنت) وبالعكس، ثقافة أسستها بينهما حياة كانت أشبه بالجنة كما سيأتي وصفها لاحقا في مقطع آخر ..
///
خذي لحني وقافيتي
ونامي فوق راحِ النور
دون شعور
حين تغضّ
عن لَممي ملائكتي
من جديد يقدم الشاعر عرضا ثمينا لها بأخذ رموز ابداعه الشعري ( لحني وقافيتي ) لتكون مؤهلة للصورة لشعرية الحلمية الشفافة ( ونامي فوق راح النور ) التي سيهبها لها ايضا ، في سياق نزعته لطمأنتها مادامت معه .
///
خُذي رئتي
وغيبي بي
كما كنتِ
فقد تعبت سفائنُ رحلتي
ولقيتُ
من سَفَر الهوى نصبا
فكان هواكِ لي مأوى
أزال الهمَّ والتعبا
ولأنهما بمثابة كيان واحد فانه يعرض عليها المبادلة فتأخذ رئته بديلا عن رئتها المعطوبة التي تهددها بالموت، فيكون عرضه رمزا لحياته التي يقدمها تضحية لأجلها اذا كانت تلك الحياة سببا لشفائها، وقدرتها على احتواء حضوره وتغييبه الجميل حبا في قلبها، بعد أن جرب مغامرة الرحيل والسفر مرتين الاولى حقيقة في ماضيه اورثته (الهم والتعبا) حتى استقر في فضائها المكاني الجغرافي الذي احتواه بحنان فانتسب إليه بإخلاص، والثانية رحلة روحية وعاطفية خاض مغامرتها في جغرافية قلبها الذي مثل المأوى الثاني له (فكان لي هواك مأوى).
وفيما بعد وبمرور الوقت والحياة والحب اتحدت الجغرافيتان فيها فكانت هي الوطن والحبيبة في آن واحد ، ومن ثم فان غيابها سيعيده روحيا الى فضاءات موحشة تحتشد بأحاسيس (التشرد والعدم والتيه)..بعد غياب الحبيبة / السفينة التي انقذته من رحيل مستمر ..واستقرت به ساكنا في قلبها .
وكانَ…وكاَن
حتى زُلزلت بدمي
فعدتُ مشرّدا
في غيهبِ العدمِ
وتاهت
في بحارِ الوجدِ بوصلتي
//
خُذي رئتي
خُذي صمتي وثرثرتي
وضمّيني
إليك
ضمّيك
إليّ
ضمّي
ما تبقّى
من بقايا جنّةٍ
كانت ..
وكنّا في مرابعِها
كعصفورينِ
محفوفينِ
بالضحكاتٍ والدعةِ
ولما أُخرجا منها
تداعى الوقتُ
وانطفأتْ
شموسُ البدء
وابتدأتْ
حرائقُ ليلِ آخرتي
وكأن النص يحاكي نبرة البكاء التي تعاود التكرار كل حين في بدء المقاطع عبر اللازمة المكتنزة بالتعاطف (خذي رئتي) بما ترمز اليه الرئة من علامة تحيل مرجعيا الى مصدر المرض فالتهديد بالغياب، وتحيل شعريا الى عرض بتقاسم فعالية التنفس ومشاركة الهواء فالحياة ، ولاستحالة انجاز هذا العرض واقعيا فان حضور اللازمة (خذي رئتي) كان مكتنزا دلاليا بالشجن واليأس، وسمعيا وايقاعيا بنبرة خفية لبكاء سري يتسامى به الشاعر إلى استهلال يفتتح به المقاطع ويمتد حزينا منكسرا بروي الياء في الاستهلال وفي بقية السطور، ليمرر بعده عروضا كريمة من مقترحات أخرى متوسلة، تتضمن امنيات بالحياة والفرح من جديد لعلها تعلو على صوت البكاء ذلك الذي يداريه الشاعر ، وتكشفه صور اخرى في القصيدة عصية على الحجب .
مقاطع النص كلها عروض للتواصل مع الحبيبة بأشكال شتى روحية وانسانية وجسدية وحياتية وشعرية ، الغرض منها الاستمرارية بحضورها ضد مشروع غيابها الذي يصر عليه الموت ..لذلك تتصاعد وتيرة التواصل وتتجلى في هذا المقطع باتحاد ظاهره جسدي فعله (الضم) وباطنه روحي دال على التشبث بالحبيبة وضمها والامتزاج معها بعيدا عن ذلك المشروع الغادر، مادام جزء منها ملتحم بجسد الاخر الذي مازال غائبا عن مفكرة الموت ،ويمثل بقايا جنة وحياة سعيدة لعلها تعرقل مسيرة حزن قادم اليها ..أو تقف بقوة ذكرياتها المديدة الجميلة أمام لحظة حاضر ثقيلة يقودها الموت .
تلك الحياة رسمت رقتها وحميميتها وفردوسها الاخضر شعريا صورة العصفورين ، وتناصها مع قصة ادم وحواء، والثمن الباهض الذي دفعاه ، بالخروج من الجنة ..واورثاه لسلالتهم البشرية كلها التي ماتزال تخرج من الجنة ايضا نحو الغياب ..لكنها هذه المرة الجنة الارضية التي يؤسس السعادة فيها (الحب) مثلا بين عاشقين أو انسانين جمعتهما مودة ومواقف وحياة معيشة بحلوها ومرها، ويزلّ الموت بهما فجأة نحو بوابة الخروج من تلك السعادة ، والسقوط في ارض الحزن والمعاناة بغياب واحد منهما وانطفاء شمسه .وحينذاك تبدأ آخرة من يبقى منفردا وحيدا يتعذب بالذكريات .
فذلك التناص نوع من المواساة للروح باستدعاء انموذجين كبيرين في الذاكرة البشرية من طراز آدم وحواء عاشا معا أول تجربة لمغادرة السعادة، كما انه ترميز لمكانة الاخر (عزة) وسموها حد النيابة عن الجنة / التي غابت بغيابها ..فقامت قيامة الباقي ( الشاعر ) واخرته الدنيوية .
///
خُذي رئتي
خُذي ما فاضَ من عُمري
وماخطّتْ يدُ القدرِ
مشيناها …
ومَنْ كُتبتْ عليهِ….
مشى
من دونما عنتِ
خطى مجروحة لا ليلَ
في أفقي
وجفّ الضوءُ
تاه بعتمةِ النفقِ
مشيناها…
ولكنّا….
سنكملُها
إذا شاءَ لنا الحبُّ
وإن شئتِ…
وفي المقطع الاخير يستعين الشاعر بتناص آخر مع بيت تراثي معروف بحكمته للشاعر (الدريني ):
مشيناها خطى كتبت علينا ^^^ ومن كتبت عليه خطى مشاها
لتهدأ الروح ولو قليلا باستحضار تجارب انسانية سابقة عليها في التعامل مع غياب يفرضه القدر الذي لا يعترف بالمكان والزمان، ولن يغير اتجاه مشيته مسار الخطوات مهما فعل أصحابها أو حاولوا مراوغتها، أنى اتجهت ، ولم يبق له من خيار الا خيار الحب فهو (كثيرها) الباقي الذي يفيض من ذكراها.. ليكون حبا كبيرا واسعا يفيض على الكون والاخرين، لان خطواته في القلب تمشي بمشيئتها .
وبعنوان هذا النص (قليلا ..من كثير عزة) يتابع الشاعر اسلوبيته الخاصة بصياغة العناوين عبر الانزياح الشعري بما يختاره لها من مفردات تخرج عن مسارها الدلالي المعروف لتكتسب دلالة مضاعفة بلاغية أخرى كما فعلها سابقا في ديوانيه مثلا (جنائز معلقة) و (موجز الأخطاء) ..وهنا تتماهى عزة الحارثي مع شخصية المعشوقة التراثية (عزة بنت جميل ).
أما كٌثير بن عبدالرحمن الشاعر الاموي العاشق فيحضر مستترا خلف الانزياح باسمه من كثير (بضم الكاف) الى كثير (بفتحها) ليكون دالا على كثير الفضل والمودة التي قدمتها عزة الحارثي للشاعر الحبيب الذي غاب عن العنوان الا (قليلا) ليعود بحضور قوي للتماهي مع الشاعر كثير عزة بالمتن الذي اكتز بحب كبير وكثير لعزة الحارثي .
ومن وجهة نظر ثقافية فإن الشاعر عبر سلوكه الراقي انسانيا في النص تجاه / المرأة / الحبيبة يعيد انتاج أخلاق الفروسية العربية التي تعترف بفضل المرأة ونبلها ومودتها، من دون احراجات الكبرياء التي تفرضها الفحولة الاجتماعية الظاهرية التي تتعالى جهلا على الاعتراف، والتي تجاوزها الشاعر بثقافة الحب والشعر والحداثة، مقتديا بالندرة من العشاق القدامى الفرسان، مطمئنا الروح بلمسة إيمان بالقدر وحكمه، محاكيا في خاتمة القصيدة خواتيم الحكمة وبيت القصيد في الثقافة الشعرية العربية، ومقسما القصيدة الى مقاطع قصيرة السطور تنسجم بصريا ودلالة القلة في العنوان، لكنها تخالفه بكثير دلالاتها والمشاعر الانسانية العظيمة التي تضمنتها .