الشق ـ قصة قصيرة
خالد جمعة | فلسطين
يعلِّقُ رداءهُ الصيفيَّ في نفسِ المكانِ منذُ أن سَكَنَ هذا البيت قبل ثلاثةٍ وعشرينَ عاماً، لم يكُن ذلك يحملُ أيَّ معنىً فلسفيٍّ، ولم يكُن لهذا الفعلِ ارتباطٌ بذكرياتٍ قديمةٍ، فقط، كان هناكَ شقٌّ واسعٌ في الحائطِ، عندما بدأت حكايتهُ بدا وكأنه مُصَمَّمٌ بمساحةِ الرداء ذاتِها، فهو لم يكن يرتديه أبداً على أي حال.
في البدايةِ، أي قبلَ ثلاثةٍ وعشرين عاماً تقريباً، كانت المشكلاتُ الخاصّةُ بالشِّقِّ تتمثَّلُ في نملةٍ أو نملتين كان يعالجهما برشِّ الماء مع تأكُّدُهُ الجازمُ أنَّهما تستكشفان المكان من أجلِ جيوشٍ مخبّأةٍ في ثنايا الشق، ولم يكن يهتمُّ كثيراً، إذ أن خططه لم تكن تتضمن الإقامة في هذا البيت للأبد، فأحلامه المستندة إلى اللاشيء كانت تغطي مساحةً بحجمِ كوكبٍ خياليّ، كانت تتضمنُ ما هو أكثر بكثير من بيتٍ مستأجرٍ في حارةٍ قديمةٍ يسكنُها الطلابُ المغتربونَ عادةً.
بعدَ زمنٍ بدأت الصراصيرُ أيضاً تطلُّ من الشقِّ وبعددٍ وافرٍ على الأخص حينَ تأتي الكهرباءُ فجأةً قبلَ أن تتمكَّنَ من الهروبِ إلى شقها الأثير، وبعد الصراصير التي عالجها بصعوبة بالغة بواسطة مبيدٍ قويٍّ غير متوفر في الأسواق، أحضره من مختبر الجامعة، جاء دور الزواحف التي لم يعرف الكثير من أنواعِها، وبدأت قدرتُهُ ورغبتُهُ في مقاومة الغزاة الجدد تذوي مع كل نوعٍ جديد إلى أن تعلّمَ مع الوقت أن يتعايش معها، وهي فهمت بالتالي أن مساحتها المسموح بها هي في محيط الشق فلم تحاول تجاوز القاعدة غير المكتوبة.
بالطبع ظهر جيل من هذه الزواحف لم يعترف بالقاعدة، ولم يعرفها أصلا، فأخذ في التجول بصفاقة في أنحاء الغرفة، بدايةً كان ذلك يحدث أثناء غيابِهِ عن الغرفة، أما بعد ذلك فقد أصبحَ الأمر طبيعياً بالنسبة لها وله، ولم يعد يكترث حتى حين لاحظ أحد أغلفة كتبه وقد تم قرضها بفنية عالية وتحدٍّ مطلق لسلطته على هذه الزاوية بالذات من الغرفة.
توسَّع الشق مع الأيام، وأصبح الرداء غير قادر على تغطيته حتى لو تم فرده إلى آخره، وقد كان يرى بوضوح ما كان يفعله ساكن الغرفة المجاورة، وكثيراً ما كان يتمنى أن يفعل نصف ما يفعله، لكن الجرأة كانت تنقصه لذا فقد أعطاه الشق فرصةً للمشاهدة لكن ليس للفعل بأي حال.
المرة الأولى التي دخل فيها أحد أطفال الجيران من الشق، قدم الجار اعتذارات سخية لجاره، مع وعد مؤكد بعدم تكرار المسألة، وفي المرة الثانية كان الاعتذار أخف لهجة، أما بعد ذلك فقد أصبح الرجل نفسه يأتي من الشق ليرتاح من صخب أولاده في الظهيرة، سواء كان ساكن الغرفة موجوداً أم لا.
الآن وبعد ثلاثة وعشرين عاماً، لم يعد هناك حائط على الإطلاق، وأصبحت الغرفة جزءاً من بيت الجار، وصار يشعر بنفسه ضيفاً ثقيلاً، فيضطرُّ لطرق الباب قبل أن يدخل إلى غرفته.
في زيارته الأخيرة للغرفة، والتي حدثت هذا الصباح، فتح له جاره الباب نصف فتحة، وقال وهو يقطر عرقاً: يمكنك العودة آخر النهار، فلسنا مهيأين لاستقبالك الآن.