المونتاج السينمائي  في رواية (آلهة من دخان) للروائي أحمد الجنديل

 أ. د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

   إن العنوان الذي يلتصق به العمل الروائي قد يكون صورة كلية تحدد هوية الإبداع,وتيمته العامة، وتجمع شذراته في بنية مقولاتية تعتمد الاستعارة أوالترميز, وهذه الصورة العنوانية قد تكون فضائية يتقاطع فيها المرجع مع المجاز، فمثلا عنوان رواية آلهة من دخان عند احمد الجنديل كمكان, وقيامه بدور المركز في الحركة السينمائية, وتحديد مصائر من يسكنه جعله يقوم بدور البطولة الفعلية في الرواية, ويفرض نفسه على عنوانها ,ويبلور رؤية المؤلف لعالمه[1], بقوله: في طريق العودة لم أتمالك نفسي, قلت لام عيسى بحماسة: – كان يتحدث عن الله الذي أراه في أحلامي.

 لم تلتفت نحوي , واستمرت في سيرها المتعثر, وهي تجيبني: – لم يكن في أحلامك, أنما هو الله في اليقظة والحلم , وما عداه آلهة من دخان [2].

    إن تشغيل الكاميرا في المتن السردي يعني – قبل كل شيء- استهداف القصد بشكل مرئي , بغية رفع أحساس المتلقي بالمسرود , وتتمكن من تنفيذ استهدافها هذا عن طريق سلوكها الذي تقوم به لصناعة اللقطة , فهي بهذا السلوك أنما تقدم اللقطة على أنها حرف سينمائي متبدل بحسب نغمة التجويد لهذا السلوك, فالكاميرا هي التي تقوم بتصوير الكل بواسطة تجزئته باللقطة [3],: لم أتمالك نفسي, سقطت دمعة كبيرة شاهدها الجميع وهي تنحدر إلى أسفل الذقن فكانت كفيلة بإطلاق أصوات النواح والعويل, شاهدت بعض الحاضرين يلطمون على خدودهم وجباههم, ومنهم من اخذ يصرخ بحالة غريبة [4], هنا بدأت عين الكاميرا نحو مصطفى البرهان ,وهو يصور المشهد السينمائي  لموت والده الشيخ في القرية, وكيف استطاع الروائي المبدع أحمد الجنديل من تحويل الرواية إلى مشاهد سينمائية متقطعة إذ جعل من كل شخصية من الشخصيات الرئيسة  تتحدث عن الماضي, وربطه بالحاضر, وهذا ما نسميه بالنقد الحديث (الاستباق والاسترجاع), فهو جعل الحدث الرئيس موت الشيخ البرهان وبدأت كل شخصية تروي عن لسانها الإحداث الماضية عن طريق الفلاش باك, (مصطفى البرهان, زاهدة البرهان, لميعة, جلال سيف الحق, فهد الهزاع, عبد الرحمن البصير).

    ما ميز الجنديل إدخاله تقنيات حداثوية في روايته فهي رواية ذات أصوات متعددة بامتياز, وتحتوي على عدة مشاهد سينمائية تأخذ اللقطة معنى مزدوجا: أنها تدخل أللاستمرارية, والتقطيع, والوزن في الواقع امتدادا مكانيا, أن نصوغه في السينما كسلسلة , وذلك عن طريق تجزئته إلى لقطات ومن ترتيب تتابع هذه اللقطات [5] , – لماذا لا يتعظ الطواغيت من دروس التاريخ؟ وصلني الجواب جاهزا من خلال ذاكرتي المتعبة – السلطة لا تسمح لأصحابها بالالتفات إلى الخلف ما يحدث أمامي يسحبني إلى عالم التيه, بعض الوجوه تم انتزاعها واستبدالها بوجوه أخرى, وبعض الجلود سلخت ووضعت مكانها جلود لا تشبهها, والكثير من الألسن اقتلعت من جذروها واستعار أصحابها السنة جديدة[6] .

    إن تقديم الرواية وفق قوانين حركة التصوير يضع الرواية وسط مكاشفة سردية تتعامل مع الضروري, وهذا العمل يعد حتمية تتمثل بــحركة الكاميرا في ميلها نحو الضروري تترك جانبا كل ما هو زائد [7], وبهذا التوصيف تكون الكاميرا وحدة الشعور الفيلمي فهي التي تؤسس الحركة العامة للفيلم وهذه الحركة تتكون من حركة تصوير المنظر, ومن الحركة داخل المنظر وبذلك تؤدي الحركة إلى تغيير التكوين, ويؤدي بنا إلى تغيير التكوين الحركي إلى تغيير الانفعال [8], كانت أمي تلقبني بالوردة, وكان اللقب يناسبني جدا ,فقد بدوت وردة بكل المقاييس, صبية جميلة وشاطرة ومطيعة, وكنت بضفائري والأشرطة الملونة التي تزينها أبدو أجمل الورود, أتذكر جيدا كيف كانت المعلمة تدفعني بعبارات التشجيع إلى الدرس غير مدركة في وقتها لخطورة العفريت الذي أكل رأس أبي وأطاح بحنان أمي, كنت ابنتهم الوحيدة المدللة [9].

    لقد اشتغل الروائي المعاصر على دعم نصه بهوية سردية بصرية من خلال التعامل مع الكاميرا التي تهدف من وراء ثباتها وحركتها إلى ترجمة قصد محدد[10], وهو بذلك يعمل على وضع نتاجه ضمن مجال بصري تتراجع فيه اللغة لأجل الصورة, كما هو الحال في السينما فاللغة في الشريط السينمائي تكون مجرد ظهير للصورة [11],: ما عادت ذاكرتي تسعفني بما أريد, لكن في ذلك اليوم الذي كان فيه الشيخ عيسى البرهان يودع الحياة, كنت أتذكر مشهد جموع المحتشدين في باحة البيت, وعندما خرج مصطفى ليعلن عن وفاة أبيه, كنت وقتها محشورة وسط النسوة ومسكونة بهواجس الدهشة مما يحدث, ومع إعلان خبر الوفاة بدا شريان فجيعتي يفتح شدقيه على سعتهما, كيف حدث هذا ؟ [12].

    إذ يتم الاستدلال على قصد المسرود عن طريق تتبع سلوك التصوير فبتغيير سرعة الكاميرا يمكن التعجيل بالحدث والتباطؤ به [13], وكذلك تتوفر للكاميرا ميزات تمكنها من تبني دور الراوي فهي – فضلا عن عملها أثناء ثابتها – تتمتع في التحكم بتقسيم اللقطات المتحركة بحسب متطلبات وجهة النظر, ومن هذا التحكم تأخذ أهم أوضاعها التي تمكنها من متابعة الروي وهي :-

  • الكاميرا تسير محاذية للموضوع .
  • الكاميرا تسير إلى الأمام أو إلى الخلف من الموضوع .
  • الكاميرا تستعرض الموضوع أفقيا .
  • الكاميرا تستعرض الموضوع من الأعلى إلى الأسفل أو بالعكس.

    ويمكن استعمال كل حركة على حدة أو الجمع بين حركتين أو أكثر, وكل لقطة تبين مجموعة مختلفة من العناصر التي تكشف عن المعلومات [14],- ليس لنا وقت للعتب يا لميعة. وضعتها بين ذراعي وأسندتها إلى صدري وخرجت مسرعا. كانت الشوارع التي مررت بها تشهد فصول مسرحية سيئة التأليف والتمثيل والإخراج , لمحت مشاهد تخجل من فعلها الخنازير, نهب وسلب وثار وانتقام والكل يفتخر بغنيمته وأنا الآخر فخور بغنيمتي , كنت استفز شجاعتي للخروج من المدينة بسرعة[15], إن استدارة الكاميرا من نقطة ثابتة من التقنيات السينمائية, وهي بتغلغلها في الرواية المكتوبة تكون قادرة على تشكيل وزن سينمائي لهذه النصوص إلى جانب وزنها الأدبي لذا يحقق لدينا نوع من التوازي بين الفنين.

   واللقطة الأفقية تشمل حركة آلة التصوير على محورها الأفقي بوضح ثابت , وهنا تقوم آلة التصوير الراوي بمتابعة الحركة بشكل أفقي – مصطفى, اترك ما كنت عليه من دلال, فأنت في زمن غير زمن أبيك. كان النعاس عالقا بجفني , واشعر بالخدر يشل مفاصلي, ارتديت ملابسي على عجل, وجلست معها هنيهة وأنا أقص عليها ما حدث, وعندما وصل الحديث إلى ما أخبرت الناس به حول ملك الموت مع أبي, ابتسمت برضا وقالت: – حسنا فعلت, اترك هذا الموضوع لعمتك فانا من يتولى نشره بين الناس [16] .

    لقد تعرف الروائي الجنديل على هذا الأسلوب المعاصر- السيناريو- ووعى فاعليته في تجهيز الرواية باليات من شانها أن تعطي للمسرود نكهة خاصة تتفاعل مع فعل القراءة ,وتفتحه أوسع أمام تحركات التأويل, يفتح الروائي مشغل سرد رواية آلهة من دخان بدورية سيناريوية تدور حول تهيئة الوضع السردي, وذلك بموضعة الشخوص, وتنضيد وحدات المكان النصي[17] , إذ يقول :قبل قليل غادرت روح أبي نحو السماء, كانت الساعة تشير إلى الرابعة والنصف فجرا , وجسد أبي الراقد الآن بلا روح جعلني أقف أمام امتحان عسير, أن أكون أو لا أكون , ثلاث ليال مرت وأنا أراقب مشهد الاحتضار, كنت اسمع صوت الروح مهزوما حشرجات تتسكع في صدره بلا انتظام, وغرغرة تصعد نحو شفتيه فيخرج القليل منها والبقية ترتد إلى صدره ثانية , كان يجاهد من اجل البقاء ولا يريد مغادرة الحياة رغم أن ما يربطه بها اوهن من خيط العنكبوت[18] .

    ما يميز رواية آلهة من دخان بدأت فيها من النهاية, حتى  وصلت بداية الرواية, وقد تحققت تقنية المونتاج السينمائي, عن طريق عرض سيناريو الأحداث التي جرت, وتقطيع المشاهد بحسب الشخصيات الرئيسة المذكورة في الرواية, وحركة الكاميرا أفقيا وعموديا, وتميزت أيضا بالبناء الروائي النادر في زمننا الحالي, لم يكتب بهذه الطريقة إلا القليل من الروائيين الكبار أمثال جبرا إبراهيم جبرا, وغائب طعمه فرمان وغيرهما, وجاءت بحبكة لا تعرف الرخاوة من حيث تناول الأحداث.

اعتمدنا في كتابة المقالة النقدية على كتاب الدكتور حمد محمود الدوخي جماليات الشعر المسرح السينما, ورواية آلهة من دخان.

المراجع:

[1]ينظر مقالات نقدية في الرواية العربية :6 .

[2] رواية آلهة من دخان : احمد الجنديل : 64 .

[3] ينظر جماليات الشعر المسرح السينما : د. حمد محمود  الدوخي : 250 .

[4] آلهة من دخان : احمد الجنديل :11 .

[5] مدخل الى سيميائية الفلم : 38 .

[6] آلهة من دخان : 136 .

[7] ينظر الخطاب السينمائي من الكلمة إلى الصورة : 260 .

[8] الروائي والتسجيلي :28 .

[9] آلهة من دخان :56 .

[10] ينظر الكتابة السينمائية : 154 .

[11] في نظرية الرواية :298 .

[12] آلهة من دخان : 70 .

[13] السينما العملية الإبداعية : 237 .

[14] كيف تكتب السيناريو :640

[15] آلهة من دخان : 124 .

[16] م 0 ن : 18 .

[17] ينظر جماليات الشعر المسرح السينما : 216 .

[18] آلهة من دخان : 9 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى