جرح اللوز
ياسمين كنعان | فلسطين
وقفت على قدمها اليمنى وثنت اليسرى للخلف، صلبت ذراعيها،وفردت جناحيها مثل فرخ طائر يحاول الطيران للمرة الأولى!
نظرت إليه وهي تتأرجح، دعته للمشاركة في مشهد الطيران، لكنه نظر إليها بعيون حانية، وضحك وهو يلعن جنونها وحماقاتها.
قالت له وهي تتأرجح على قدم واحدة ” في المرة الأولى التي حاولت فيها التحليق وقعت وجرحت جبيني، يومها نزفت ودخل الدم في عيني واختلط بدمعي وعرفت معنى أن تبكي دما..ولا أعرف إن كانت المرة الأولى والأخيرة، و لأكون صادقة معك… لا لم تكن المرة الأولى ولا الوحيدة!
أحنت جذعها للأمام أكثر، واتخذت وضعية الطيران، فقدت توازنها، كادت أن تقع..هب على قدميه والتقطها بين ذراعيه، وغابا في ضحكة مجنونة!
أخذها إلى الحافة الإسمنتية وأجلسها على ركبتيه، وصار يمسد على شعرها الطويل، وعندما توغلت أصابعه أكثر في غابات شعرها، ارتطمت بندبة جرح قديم.. التفتت إليه ونظرت في عينيه ضاحكة، وقالت له” هذا جرح اللوز، و أسميه أحيانا جرح القهوة!”
مالت برأسها على كتفه وحدقت في بعيد لايعرف تفاصيله غيرها.. همست له” أو تدري؟!”
وكعادته قال ممازحا ” لا!”
حضنت كفه وضمتها بقوة إلى صدرها،كانت تخشى الضياع في مجاهيل الحكاية، أرادت أن تأخذه من يده إلى عالمها، استسلم لها طائعا..قالت له وهي تغمض عينيها” الحق كل الحق علي، لأنني كنت أحب اللوز، أتسلق أشجاره وألتقط الحبات الخضراء وألتهمها بعد أن أغمسها بالملح! وعندما تصبح قاسية القلب كنا أنا وأخوتي نتسلق الشجرة الكبيرة التي تقف منحنية على المنحدر، نأخذ الحبات وندقها بالحجارة لاستخراج لبها الأبيض الذي صار قاسيا..ويومها قرر إخوتي أن يحملوا الحجارة معهم إلى أعلى الشجرة، وهكذا يقومون بتكسير الحبات والتهامها، أما أنا فخفت وقررت أن لا أتسلق وأن أكتفي بالتقاط ما يقذفونه من فوق..وهكذا كان!
ولا أعرف كيف انزلقت إحدى الحجارة وسقطت على رأسي..صرخت وبكيت، وتحسست رأسي بيدي فعادت إلي غارقة بدمائي، ولا أعرف كيف ركضت ولا كم مرة تعثرت، ولا كم شوكة أدمت ركبتي، كانت الدماء تسح على وجهي، استنجدت بأمي، وصلت إلى الحاكورة وشجرات الليمون، ولا أعرف كيف وصلت!
تلقفتني جدتي بين ذراعيها، صرخت طالبة القليل من البن المطحون، التقطت قطعة من ملابس بيضاء عن حبل الغسيل، ربما كانت خرقة..ما عدت أتذكر، وصارت تمسح الدماء عن وجهي..وصلت أمي راكضة ووضعت كمية من البن في الجرح المفتوح وضغطت عليه وصرخت، واختلطت الروائح في أنفي، صارت مزيجا من رائحة الدم والقهوة والصابون النابلسي الذي غسلت به الملابس ورائحة زهر الليمون!”
صرخت أمي ” وإلا بتعرفيش تقعدي، شاقة الأرض وطالعة منها ..باسم الله مثل القرود، ليش لحقتيهم..وبس أشوفهم والله لأكسر العصاية على جنابهم!”
ربما أرادت أن تلعن أبي وغيابه، هي التي كانت تردد دائما ” أنا أرملة حي!” لكنها خافت من حماتها،فسكتت وصارت تردد بصوت خافت كلمات لم أفهمها!
وكالعادة أيضا سوف تغسل وجهي وتلبسني ثوبا نظيفا، و تمسكني من يدي، و تأخذني إلى طبيب البلدة الذي سيقوم بخياطة الجرح بخيط أسود، ولن تكون المرة الأولى ولا الأخيرة!
وكعادتي سأمارس حماقاتي وشقاوتي، وأقع، وأنزف..
وعندما أكبر سأتذكر كل هذا واحكيه لك وأنا أحضن كفك وأختبىء في صدرك!