الرقص في بركة السماء

بقلم: حنان بدران | فلسطين

تتكاثف الغيوم وتتراكم في رأسي وأنا أستنشق رائحة الشؤم لأحوال الطقس في الخارج كان عليّ أن أتظاهر بالنوم الداكن والغامض في الملجأ لِيتكدّس في أعماق أعماقي خوفا من أن يسألوني عن الساعة؟
هذا السؤال الأحمق هو فخ الضعفاء الذي كان يوقظني ويجعلني أنفجر في وجوههم ببكاء أهوج.
لَزمني الصمت بينهم حين لطمني الكلام على وجهي وأنا أتابع مسيرة سقوطي وارتطامي بالجدران التي تحيط بسجن ملجئنا، ما زلت أنتظر طيَّ بيوتنا وحياتنا وأصواتنا، أقلامنا، أوراقنا ووطننا كطي الصحف الأولى.. في مدينتي بدا لي الوحل أحمرا، وأنا أنتظر رعونتهم في اصطياد رؤوسنا ككنز ثمين في الغابة ..أنتظر حتى ينتهون من المهمة التي جاؤوا من أجلها لِتدمير مدينتنا وهي تتحول أمامهم بحراً من اللهب تحتَ سماءٍ لونُها رماد، وركاماً يرتجف وراء ستائر الدخان ليتركونا بعدها وشأننا .
أجلس متكورة على نفسي خلف قضبان السماء كسجينة أصابها الخرس، لسانها يتمدد وهو يتساءل لمَ اعتُقلنا وعلامَ نحن هنا نجتمع وعلى ماذا نُحاكم ؟!!
ها أنا أواري كم الأموات في أحشائي من صياح ، طبول جوع، ظمأ، رقص على الجثث في بركة السماء، أرقب بهدوء حتى يستفزني صبري وهو يعزف بأطراف أنامله على وتر أعصابي فينقطع قبل أن أصرخ بوجه الجميع متى سيحين دورنا لإطلاق قذيفة الرحمة على صدورنا متى موعد سلخ جلودنا وما بقي من حناجرنا؟!

-أقف في طابور الذاكرة المحتشدة وهي تنفُثُ في وجهي أنفاسَها المُكربة !
أمام نافذة تشرق بخيوط هاربة من الخارج بقليل من النور لأدرك أن الكون ما زال يسير بذات النظام الذي خُلِق عليه.
تسألني العجوز المتصابية: بالله عليك على ماذا تتلصصين؟
-أريد أن أعرف متى سيكون موعد غسيل ذاكرتنا الحية، حتى أستطيع بدء التحضير لاستعادة دمنا المسفوك في زجاجات مصلوبة تحت الشمس !؟
ترمقني مبتسمة وبهدوئها القاتل ترد ساخرة:
ما الفائدة حين نتوسد وسادة التراب وجحافل الدود تتلذذ بنا؟! لا أعلم شيئا الآن سوى أنني ما زلت أتوق لمغادرة العلب التي أجبرونا على العيش فيها.
أنتظر ذلك البكاء لأمسك لجام أحصنة الخوف والرعب والارتجاف، نهار جديد يشرق مادا لسانه ساخرا من أقدارنا المجهولة.
ونحن نرخي له سمعنا وأصوات القذائف تحطم كل ما فوقنا وتتدثر بالغبار الرمادي، وأكاد أجزم أن الهواء يختنق بأنفاسه حولنا ، متسائلة وأنا أرقب نهارا آخر، وأفكر كيف تبدل فينا شكل النهار وأمنياته المختنقة فيه ولا أستطيع الصياح إنه الجحيم؟

-بفمي المكمم بالاستسلام تراقصني الذاكرة منهارة على صوت أزيز الرصاص حين كنا نركض بذات الشوارع نحمل هدير حناجرنا ونرتَصُّ بعزيمة التحدي لنطالب بالحرية والقومية والعروبة.. وحقنا في خبزنا المرّ، وكنتَ بجانبي تشدّ على يدي ونحن نرفع علمنا سويا ونبتسم.. رغم الهراوات التي كانت تلوح مزمجره أمامنا.. يدٌ تمتد من خلفي تهزني وتسألني: هل أنت بخير أنتِ ترتجفين ..أعدل جلستي وأهز لها برأسي وأشير لها بيدي .. وأعود لشرودي ..
يا آلهي كيف أصبح الآن صراخنا عويلا يزحف على الأرض المشتعلة والسماء المنتحبة ..!!

الشمس تصب إبريق النور على رأس الأرض ليبدأ نهاري وأتلصص من كوة الزجاج الغبش أختلس النظرات المرعبَة إلى الشوارع الحزينة وهي تئن تعبة وتحتضر وحدها ، والنهار يرخي بأهدابه المشرقة المتلألئة بالدموع على أطراف الأرصفة والطرقات يبدأ بخروج جارنا بعد أن ألمّت به هستيريا ليحضر أي طعام بعد أن استنفذه صراخ صغيره وهو يمزق أعصابه، أراه عائدا يزحف على الأرض ببالغ الخفوت خوفا من أن تلتقطه رصاصة القناص المتربص بالجميع من النافذة المواجهة لنا، أنظر والكلام يبتلعنا بجوفه هاربة من جحيم الرعب بداخلي لرعب المراقبة المستمرة لا أستطيع أن أشيح بنظري عنه ، أنهكت قواي وأنا أراه يعاود الزحف دون أن يرفع رأسه ، تصيح نظراتي بصوت مكتوم: توقف أرجوك أخاف أن يراك..
حتى يعاود السكون.. فأتنفس مقتضبة ، تتجمد الدموع والدم بداخلي وأنا أستحم بعرقي بدل أن أستحمّ بماء ساخن لأرتخي من تشنج ذاكرتي المشدودة على حبل الحياة والموت..
يا الله..يا الله .. متى سأقف في الشارع لأرى النهار وأستنشق نسائم الصباح دون أن أرى عباءة الدخان، واللّهيب تتراقص ألسنته ساخرة مني دون حواجز ترتمي برعب.. دون متاريس تزاحم الأفق، ودون صوت جنازير الدبابات زاحفة كسلاحف ضخمة..
-ها هو يعاود التقدم ببطء بضع خطوات ..
ألفظ تنهده مليئة بالألم لأهذي بعقلي: يا لضعفي يا لقسوة العالم.. تحت سماء بلا لون وطيور مهاجرة والخوف يترك طيات ثوبه تجرجر بالمكان تبتسم بدموعها وتغني حزنها بارتجاف..
يا إلهي كيف تركنا لهم حمقنا وهم يجزون عشب أيامنا ويقطعون زيتوننا العتيق ليصنعوا منه توابيت لقبورنا بدل أسرّة أعراسنا، يا الله إنها النار يستعر وهجها وصمتنا الدفين في جوفها..
كيف سكتنا عن حقنا وتركناهم يعربدون على جثثنا الحية ويشربون نخب جروحنا ، ويح أيامنا وهم يسلموننا بكف اليد لقناص أرعن ، ليراودنا بين الطلقة والمجاعة !!
تنهدت الصعداء حين عاود الزحف كأفعى تتلوى على الأرض أتمتم بالدعاء حينا وأرتل الآيات حينا آخر..ثم لا ألبث أن أتمتم بأن يلتزم الصمت المطبق بمكانه ، حتى ينفجر بسمعي دوي طلقة واحدة وصرخة واحدة وأنين ينز من ثقب الرصاصة يتلوى ليفقد النطق بعدها ، فتكوّم على وجهه وارتخى..

ارتجفت مفزوعة انهرت وظهري إلى الجدار أنزل زاحفة ببطء تتقفز الدموع الصامتة من ثقب ذاكرتي لهول الموت أمامي ولسهولة أن يقرر آخر بلحظة أن ينهي حياتك بقبلة صغيرة ..
أقفز على جدار الذاكرة وأنت تضمني إليك تشدني بقوة خوف أن أفلت من بين ذراعيك وتهمس بأذني بأنين متقطع (ستكملين مشوارنا تسمعينني أنا أحب…ك)تتهاوى قبل أن تكمل الكلمة تسقط بكل ثقل حقيبة جسدك … يداي تنديان بقطرات طهرك …وقلبي يشهق أنفاسه الأخيرة معك .

ما زلت أترنح مكاني كنت أتململ لهول الصراخ حولي ، يدي تصفعني ويدي الأخرى تدق ناقوس الوعي لأصحو ومابين غباش الرؤية دخان ، وسعال وشهيق ، متحجر، وعويل أطفال يصرخون بأعلى صوت حين فتحت عيوني بعيونهم الفزعة ، والهلع يتراكض بينهم وحولهم ليوقظوني ولكن أحدا منهم لم يسألني بعد كم الساعة ؟!!
وأنا أتابع سقوطي الحيّ بينهم.
صوت صراخ : قصف قصف تدمرت البناية فوقنا استيقظي…!
فسارعت بسؤالهم وأنا أضع كف يدي على عيوني من قوة الشمس التي اقتحمت المكان من كوة بالجدار..
بصوت يغالب الحلم بالسؤال: قصف قصف أم قصف على الذاكرة ؟؟؟
كفوا عن الصراخ بأوتار أعصابي أرجوكم وأجيبوني :
ماذا كانت القضية؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى