بقايا عطرك

هند خضر | سوريا

دقّ الليل أجراسه ناعياً وحدتي في غيابك، مدّ الظلام رِواقه الأسود على جسم الطبيعة ظناً منه أنها تنام كما ينام البشر، هذا الزائر لم يأتِ بمفرده وإنما أتى حاملاً على جناحيه عطرك الذي يضاهي العطور الفرنسية لكي يعانقني عوضاً عنك، كم أنا مشتاقة لهذا العناق!
لا تظن أنني فقدت صوابي فأنا أدرك ما أقول جيداً،
نعم يا سيدي للعطر أذرع يضمني من خلالها إليك بقوة، له لغة تصيب القلب بالإرباك وتتسبب في ازدياد خفقانه حتى أنني أشعر بأنه سيقفز من بين ضلوعي ليستقر في كفك فأنا على يقين وثقة مطلقة بأنه في يد آمنة ستعتني به..
عندما يفوح شذاه في عالمي أقول: تباً لجميع اللغات ومفرداتها وعباراتها، نسمة واحدة تهب من صوبك محملة بتلك الرائحة الفاتنة التي تخترق أنفاسي وتمتزج معها تكون كافية لإيصال ما عجز لسانك عن إخباري به، إنها لغة لها أبجديتها الخاصة وتراكيبها المتفردة.
الليل و عطرك يثيران في الروح رعشة شوق إليك، يؤججان نار الحب المتقدة في زوايا قلبي ،أشعر معهما أنني لامست شغاف فؤادك وتمكنت من الغوص في لبّ أفكارك وسبر أعماق ذاتك وأنني اجتزت تلك الحواجز التي تحول بيني وبينك، عبرتُ معك الأبواب الموصودة وشقينا قيد الوحدة بأيدينا.
بما أن العطور بوابة الذكريات فقد أخذتني ذاكرتي إلى الوراء قليلاً عندما قلتَ لي: أنتِ الأنثى الوحيدة التي نثرت عطرها فوق مساماتي فتغلغل فيها ،أتعرف ماذا فعلت بي في تلك اللحظة؟
شعرتُ أن روحي خاطبتك بلا كلمات وهمستْ لك بأن بقايا من أريجك تسربت إلى حناياها واتخذتها مستقراً لها ..
يبدو أننا نعيش في كنف إحساسنا العالي الذي نجهل تماماً إن كان نعمة أو نقمة، لا أحد فينا قادر على تحديد ماهية هذا الإحساس والغوص في جوهره لإيجاد الأجوبة على كل الأسئلة التي نقع في حفرتها المعقدة.
على سيرة الذكريات سوف أخبرك سراً، سأبوح به لك للمرة الأولى، ذات ليلة ثار فيها بركان وجدي ،عزف الحنين على أوتار ضلوعي، حدثت نفسي:يا تُرى أين هو ومتى سألقاه؟
لم تدمْ مدة سؤالي طويلاً، ليست إلا ثوانٍ مضت خرجتُ فيها إلى الطريق المكتظ بلقاءاتنا فوجدتك تسير عليه بخطوات لها وقع يطرق على مدخل شراييني وأوردتي،ومن دون أن تراني قمتُ بملاحقتك، استعدتُ عافيتي عندما شممتُ عطرك الأخاذ، أعدتَ أوكسيجيني لأنفاسي شبه المنقطعة، بقيتُ أتبع خطاك إلى أن غبتَ عن نظري.
لو تعلم ماذا تمنيتُ لحظتها!
كانت أمنيتي أن أناديك باسمك، بصوتٍ خافتٍ أهمس: تمهّل قليلاً،
من بعدها أقف أمامك كلي.. بهيامي ،شغفي ،عاطفتي،لهفتي، جنوني ودلالي ،أنظر في بحر عينيك الذي لطالما أبحرت فيهما من دون قبطان وأقول لك: في عناقك عطر فريد يبعثرني على شواطئ صدرك، يجعلني أضطرب، يدغدغ حواسي، يجذبني نحوك كالمغناطيس ويغريني بلا قيود أو حدود.
هذا ما تمنيته ولكن أمنيتي كانت خارج حدود الزمن ومحاطة بآلاف القيود ،وبيني وبينك رعد وثلج وريح ونار، وأعلم أن محاولتي للوصول إليك هي ضربٌ من المحال

عدتُ بعدها مليئةً بك، خاليةً منك وفي أعماقي أمنية لم تكتمل سببها واقع لا يُحتمل.
أمسكتُ قلمي لأكتب لك عما حدث في ذلك الحين، لكنني لم أستطع فالكتابة عنك أمر محكوم بالفشل مهما حاولت ومهما اجتهدت في صياغة عباراتي

رجل مثلك يستحيل على يراعي تحويله إلى أبجدية، إنك أكبر من أن أعتقلك داخل نص، أو أحبسك بين فاصلتين، أو أتكلم عنك وأضع نقطة انتهى.
شخص مثلك عصيّ على الوصف، لن تسعفني حروفي لإنصافك، سينهزم مداد قلمي ما إن بدأ مهمته ليكتب عنك،
كلا يا من أسميتك سيد تفاصيلي، لا يمكنني مطلقاً أن أحول العطر إلى لغة مهما أجدتُ فالعطر يُشم ولا يُكتب ..
بحق السماء قل لي:
ماذا أفعل وبقايا عطرك تسربت تحت جلدي ومازالت تقبع في أنفاسي؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى