بقلم : عماد خالد رحمة | برلين
منذ الحرب العالمية الأولى في بداية القرن العشرين الماضي، شَهِدَ العالم حالةً من الإرباكِ والتخبُّط الفكري والثقافي والسياسي والاقتصادي، وبدأت الدول الأوروبية الناشئة الجديدة بشكلٍ عام، وفرنسا بشكلٍ خاص تسيرُ باتجاه الدكتاتورية الكاملة غير الممنهجة، فقد انقلبت رتابة الحياة وأصبحت أكثر خمولاً واستكانةً، وحملت العديد من المبادئ التي ادَّعت اسمياً أنها تسعى إلى تحقيقها على أرض الواقع، مثل تحرير الإنسان، لكن هذا النهج كان نظرياً فقط ، وكان تقييد الإنسان وإذلالهُ وإنهاء حياتهِ في المعاركِ وساحات القتال، هو النهج العملي.
في هذا الظلام الدامس، وحالة الفوضى العارمة، تراءت أنوارٌ ساطعة ، أو منائر قليلة مبعثرة هنا وهناك، وهي ليست على شكل أرخبيل وجزر متناثرة ، بل على شكل جزر متسلسةٍ موحّدة ٍ، تفصل بينها بحارٌ واسعةٌ ومحيطاتٌ من الظلام والقهر والسواد، أمثال جيرار دي نرفال (Gérard de Nerval) (1808 – 1855)، واسمه الحقيقي جيرار لابروني، والشاعر آرثر رامبوArthur Rimbaud، والطبيب النمساوي سيغموند فرويد Sigmund Freud ، هؤلاء قلّة قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة .
على خطى هذه المنارات نشأت الحركة الدادائية أو الحركة الداديّة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. حيث كان زعيم الحركة الدادائية تريستان تسارا Tristan Tzara، يلتف حوله الشاعر لويس أراغون Louis Aragon، والشاعر فيليب سوبولت Philippe Soupault ، وأندريه بروتون André Robert Breton، وغيرهم . تلك الحركة حملت في مضمونها كل معاني السخرية والإزدراء والهدم والشك. (الشك فقط لأجل الشك) ليس إلّا. في هذا السياق أخفق الأدب وأخفقت الفلسفة وأخفق العلم. كما أفلست القضايا الأخلاقية والعقلانية والجمالية، وزاد عليها إخفاق الدين في تحقيق حضوره المجتمعي . لذا كان من أهم أهداف الحركة الدادائية ، تقويض كل شيئ تقويضاً ساحقاً، لا يُبقي ولا يذر، وكان ذلك أن محقت الحركة الدادائية نفسها بنفسها في شمولية خرابها وتدميرها العارم لذاتها .
لقد نهضت على أنقاض (الدادائية) عمارة (الفوقواقعية) التي أبدعها الشاعر غليوم أبو لينير Guillaume Apollinaire، وكان جيرار دي نرفال (Gérard de Nerval) قد أبدع كلمة (فوق الطبعانية) و(سان بول رو Jean-Paul Roux) أبدع كلمة (الفوقواقعية) ، وهذه الأسماء الثلاثة تلائم بشكلٍ كبير تحديد الحركة التي هدمت القيم الشخصية والفردية والاجتماعية التي كرَّستها أجيال البرجوازية الفرنسية المتعاقبة ، التي عملت من خلال هذا الانقلاب على بناء المطهِّر للإنسان من العقابيل العالقة به، وانتهى إلى التحرّر من كل أشكال الإذلال والإخضاع الفكري والثقافي والجمالي وحتى الاقتصادي .
لقد أدلى الشاعر أندريه بروتون في البيان الأوّل الصادر عام 1924 بتعريفه لــ (الفوقواقعية) بأنّها : (حركة أوتوماتية نفسية صرفة تهدف بشكلٍ أوّلي إلى البحث كتابةً أو قولاً أو بأيَّةِ طريقةٍ في سير الفكر الحرّ الحقيقي . الفكر هو الذي يمليها بمعزلٍ عن أيَّةِ رقابةٍ أو متابعةٍ من قِبَل العقل، ودون أيّ اهتمامٍ أخلاقي أو جمالي. و(الفوقواقعية) فلسفياً تستند بقوةٍ إلى الاعتقاد بأنَّ لبعض أشكال التجاوبات المهملةِ إلى ذلكَ الحين واقعاً أسمى ، كما تعتقد بقدرةِ الحلم الكليّة وبلعب الفكر المجرّد. وهي تنزع إلى تقويض الميكانيكات النفسية نهائياً، حالَّةً محلَّها في ما هو أهم لإيجاد حلول لمشكلات الحياة الرئيسة) .
هذه الحلول يمكن إن تعبِّر عن الثورة الشاملة على الأوضاع المتوارثة، والتي ترافقت مع الثورة البلشفية الحمراء في روسيا عام 1917م والتي تعتبر مثالا يحتذى في ذلك الوقت. فقد كانت الثورة البلشفية التي قادها فلاديمير إيليتش لينين Vladimir Ilyich Ulyanov Lenin|) ثورةً على الظلمِ والقهرِ الاجتماعي. كما قال الفيلسوف الألماني كارل ماركس Karl Marx (كل ذلك من أجل تغيير العالم) فكان شعار الثورة: (يا عمال العالم اتحدوا) .لذا فقد جاءت (الفوقواقعية) كثورة من أجل الحياة كما قال الشاعر أندريه بروتون André Robert Breton ، وهكذا تحوّلت الفنون من فنون ذات صبغة جمالية إلى فنون ذات صبغة واقعية ملتزمة لها قواعدها الصارمة الخاصة .
فقد وقف الشاعر أندريه بروتون ضد البرجوازية الفرنسية ، ولم يكن على وفاق معها، على الرغم من إيمانه بأنَّها تحترم حرية الإنسان نسبياً ، وتعمل على ضم التراث الفلسفي والفكري والفني لجميع معارضيها، أمثال جان جينيه Jean Genet الذي نَعَتَ البرجوازيةَ بأقذرِ الألفاظ وكالَ الشتائم المقذعة على فرنسا ، وبقي كذلك حتى آخر لحظةٍ من حياتِهِ ، ذلك السلوك وتلك المواقف لم تمنع وزير الثقافة الفرنسي جاك لانغJack Lang الذي كان وزيراً في حكومة فرانسوا ميتران آنذاك أن يرافقه إلى مثواه الأخير في مدينة العرائش في المملكة المغربية . هذه البرجوازية أدرجت خلال التسعينيات من القرن الماضي أعمال الشاعر الفوقواقعي أندريه بروتون ضمن سلسلة (البلياد) الشهيرة المخصَّصة لعظام الكتّاب والشعراء والفلاسفة والمفكرين. وهكذا أصبح الشاعر أندريه بروتون متواجداً إلى جانب رينيه ديكارت René Descartes ، وفرانسوا رابليه François Rabelais، وباروخ اسبينوزا Baruch Spinoza ، ويوهان غوته Johann Wolfgang von، ووليام شكسبيرWilliam Shakespear ، وميغل دي سرفا نتس Miguel de Cervantes، وباسكال Pascal؛، وميشيل دي مونتين Michel de Montaigne) ، وفيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي، وشارل بودليرCharles Baudelaire ، وبول فاليري Paul Valéry ، وسان جان بيرس Saint-John Perse ، وعباقرة آخرين كثيرين.
بالنهاية كان بروتون يعتبر (الفوقواقعية) والفوقواقعيين عملاً مهماً جاداً، وهؤلاء بذلوا قصارى جهدهم لأجل التوفيق بين الحلم والعمل. لقد مدَّ الفوقواقعيون جسراً فوق خمسين عاماً من الجمالية والعقلنة في الشعر ليتصلوا بالرومانسية ، رومانسية الحب، والجمال، والخيال، والحلم ، والإنسانية والذاتية ، والوجدانية. اللهم في ما هو للعروض الشعرية التقليدية والتمتّع. لذا فقد انقلب الرمز إلى صورةٍ، كان ذلك ردَّة فعلٍ على الرمزيةِ . فإذا بالصورِ الجميلة الأخّاذة تتدفَّق كالسَّيل الجارف، خارج سياقها المنطقي ، تتداعى متلاحقةً كأنَّها تتجاوب، وليس من رابطٍ بينها سوى ذاتية الشاعر الباطنية، أو لا وعيه الذي أسهمت نظريات الطبيب وعالم النفس النمساوي سيغموند فرويد في تفجيره أمام عين الشمس الساطعة، حتى إنَّ قصيدة الشاعر أندريه بروتون الشهيرة بعنوان : ( الزواج الحرّ) تعني في الحقيقة الزواج الطليق الحرّ بين الصور الشعرية التي تبدو للمنطق التقليدي أنها متنافرةً ومبعثرةً . تلك القصيدة تصدم الحالة الأخلاقيّة المتزمِّتة بقدر ما تصدم البنيان الشعري في عمودهِ للقصيدةِ التقليديةِ :
الزواج الحرّ
زوجتي شَعرها من نارِ الحطبِ
أفكارها شرارات حَرّ
خصرها ساعةً رمليَّة
زوجتي خصرها ثعلب الماء بين أنياب النَّمرِ
زوجتي ثغرها شارةٌ حمراء وأضمومةٌ من النجماتِ الصغيرةِ الصغيرة
أسنانها آثار فأرةٍ بيضاءَ على الأرضِ البيضاء
لسانها من احتكاكِ العنبرِ والزجاج
زوجتي لسانها قربانةٌ طعنت بخنجر
لسانها لسان دميةٍ تفتح وتغلق العينين
أسانها حجرٌ لا يصدَّق
زوجتي أهدابها من تناشيرِ الولد
أجفانها حافَّة عشِّ السنونوة
زوجتي فؤادها من سقف دفيئة
ومن البخارِ على الزجاجِ
زوجتي كتفاها من الشمبانيا
ومن نبعٍ يتفجَّر من رؤوس الدلافين تحتَ الجليد
زوجتي معصماها من عيدانِ الثقاب
زوجتي أناملها من المَيسِرِ وآس الكبَّة
أناملها من العَلف الحَصِيد
زوجتي إبطاها من السمّور
من ليلةِ عيدِ القدِّيس يوحنّا
ذراعاها من زَبَد البحرِ والسَّد
من القمحِ والمطحنةِ مختلطين
زوجتي فخذاها من الرَّدَن
حركاتها محكمةٌ تقطع الرجاء
زوجتي رَبلتاها من لبِّ البيلسان
زوجتي رجلاها من أحرفٍ تبتدئ بها الأسماء
رجلاها من حزمةِ المفاتيح
رجلاها من الجلافطة الذين يشربون
زوجتي عنقها شعيرٌ لم يقشَّرْ
زوجتي جيدها من مسيلِ الذهب
من الموعد في مجرى السَّيلِ بالذات
نهداها من الليلِ
زوجتي نهداها ربوة صغيرة بحريَّة
زوجتي نهداها من مصهرِ الياقوت
نهداها من طيفِ الوردةِ تحتَ النَّدى
زوجتي بطنها من نشرِ مروحةِ الأيَّام
بطنها من مخلبٍ عملاق
زوجتي ظهرها من طائرٍ يفرّ عمودياً
ظهرها من الزئبق
ظهرها من النّورِ
زوجتي رقبتها من حجرٍ مدحرجٍ ومن طبشورٍ مبلَّل
ومن سقوط كأسٍ عقب الشرب منها
زوجتي وركاها من زورق
ومن ريش طاووس أبيض
من ميزان ليس بحسَّاس
زوجتي إلياها من ظهر التَّمّ
زوجتي ألياها من ربيع
عورتها من خزامى
زوجتي عورتها من منجمٍ ذهبيّ في الغرين ومن خلدِ ماءٍ
زوجتي عورتها من أشنةٍ ومن ملبَّس عتيق
زوجتي عورتها من مرآةٍ
زوجتي عيناها ممتلأتان بالدموع
عيناها من مجموعة لعبٍ بنفسجيَّةٍ ومن إبرةٍ ممغنطة
زوجتي عيناها من سَبْسَب
زوجتي عيناها من ماءٍ للشرب في السِّجنِ
زوجتي عيناها من خشبٍ دائماً تحت الفأس
عيناها من فادنٍ مائيّ من فادنٍ هوائيّ وترابيّ وناريّ.
هذه نبذة من إحدى قصائد الشاعر أندريه بروتون الذي كان واحداً من المؤسسين لحركة الفوقواقعية ، وهو أحد أعمدتها المتينة ، وهو أيضاً الذي استمر في دعمها حتى آخر يوم في حياته .
من هنا ندلف لمعرفة من هو الشاعر الفرنسي أندريه بروتون :
ولِدَ الشاعر الفرنسي أندريه بروتون في مدينة (تينشبراي) الواقعة في مقاطعة (الأورن) في فرنسا عام 1896 م . دارت حياته بشكلٍ لولبيّ منذ ربيعه السادس عشر، وحام حول الشاعر شارل بودلير Charles Baudelaire، واستيفان مالارمه Stéphane Mallarmé ، ودنيس هويسمان denise huismanمؤلف كتاب علم الجمال (الاستطيقا) . كما أنّه أحبَّ غوستاف مورو Gustave Moreau) ، وداكين ماتيوس Dakin Matthews)، ودورين . وكان على علاقةٍ حميميةٍ وثيقةٍ بالشاعر بول فاليري Paul Valéry طيلةَ الحربِ العالميةِ الأولى ، لكن هذه العلاقة تراخت وخفّت ، وبَرَدَت حرارتها بشكلٍ كبيرٍ ولافت . ومن حياته اللولبية أنَّه دَرَسَ الطبَّ ومالَ إلى دراسةِ علم التحليل النفسي ومتابعة ما تنتجه المدرسة الغشتالتية ، وهذا ما جعله شغوفاً بالطبيب وعالم النفس النمساوي سيغموند فرويد .
في عام 1910م ،كتب أندريه بروتون موضوعاً رائعاً مما حدى بأستاذه أن أعجب بلغته الجميلة الباذخة، والبلاغة المتينة التي حرَّر بها الموضوع ، فحثه على قراءة الشاعر استيفان مالارميه ، ودينيس هويسمانس ، وشارل بودلير. في الفترة نفسها نشر أندريه بروتون العديد من النصوص الشعرية باسم مستعار، في المجلة الأدبية التابعة للمعهد الذي كان يدرس فيه. وكان أندريه بروتون وقتها في سن المراهقة لمّا تعلَّق بالفلسفةِ تعلقاً شديداً، وبدأ ينكَبّ على قراءةِ ما كَتبَه فلاسفة القرن الثامن عشر وعلى رأسهم الفيلسوف والكاتب الفرنسي دينس ديدرو Denis Diderot) ، والفيلسوف السويسري جان جاك روسوJean-Jacques Rousseau، وفرانسوا ماري أورييه الملقب بفولتير François-Marie Arouet، وشارل لي دي سيكوندا المعروف باسم مونتسكيوCharles Louis de Secondat). كما قرأ جميع مؤلفات الفيلسوف الألماني جورج فيلهليم فريدريش هيغل Georg Wilhelm Friedrich وكتابات المصلحين الاجتماعيين الكبار. وفي مطلع عام 1913 م وبعد قراءات متعدِّدة ومتنوعة شعر بالنضوج العقلي والمعرفي ،فأحسَّ كما لو أنَّ (نداءً جاءَه من بعيد) يدعوه لكتابة الشعر. وشعوره بأنّه يمرٌ في حالة الإلهام الشعري . عندئذ بدأ يخطِّط بجديَّة لكي يكون الشاعر الكبير الذي ينبغي أن يكون. عقب حصوله على شهادة الثانوية (الباكلوريا).
الجدير بالذكر أنّ أندريه بروتون كان قد فتن بمعلم يدعى (تورو رولو) عندما كان تلميذاً صغيراً في مدرسة (سانت اليزابيت) فقد كان يروي (تورو رولو) لتلاميذهِ قصصاً عن الأشباح والخوارق والعوالم الأخرى الغيبية، مما سَاهَمَ في إنعاشِ خيال بروتون الطفل .كما كان يعشق الكتب المزدانة بالصور والروسومات المتنوعة والأدوات التوضيحية . وفي المرحلة الثانوية كان متحمساً جداً للعلوم الطبيعية ، ونافراً من الرياضيات ، ونتيجةً لاجتهاده فقد تعلَّم القليل من الألمانية والإنكليزية .
اختارالشاعر بروتون، بضغطٍ وتحريضٍ كبيرين من والدهِ، دراسةَ الطبِّ. غير أنَّ ذلك لم يصرف ذهنه عن (الإلهام الشعري) و (شيطان الأدب) كما يقول. وكانت الرغبة الجامحة في الكتابة الشعرية والأدبية تستبدّ بِهِ بين وقتٍ وآخر، فينسى الدروس الطبيّة والمحاضرات والندوات والدروس العملية في غرفة التشريح والمخابر الطبية ، وكان يسجِّل على أوراقِهِ ودفاترَه ما كان يمرّ في خاطرهِ و ذهنِهِ من مشاعرَ وأحاسيسَ وهواجسَ وأفكار. وكان يقرأ باهتمامٍ كبير أعمالَ كبارِ الشعراء والكتّاب أمثال الشاعر والناقد الفرنسي ستيفان مالارميه (Stéphane Mallarmé) (1842- 1898) م، الذي ينتمي إلى تيار الرمزية ويعدُّ واحداً من روادها الأوائل. والطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون( Gustave Le Bon) (1841 – 1931) م، وهايسهانس ، ومورو ، معتبراً إيّاهم أهم ما أنتج القرن التاسع عشر. كما أنّه اقترب كثيراً من الشاعر جان رويار J. ROYERE)) الذي كان يشرف على مجلة (LA PHALANGE) ، وكان يردِّد دائماً: (إنَّ شعري غامضٌ مثل زهرة الزنبق).
بين عامي 1917وعام 1918م كان من المتابعين والمواظبين على استمرار علاقته المميزة مع الشاعر غليوم أبولينير Guillaume Apollinaire. وفي عام 1919 م نشر ديوانه الأوَّل ، وأسَّس مجلة أدبية تعنى بالشعر والإبداع الأدبي أسماها (أدب) مع الشاعر لويس أراغون Louis Aragon، والشاعر فيليب سوبو Philippe Soupault اللذين شاركاه بكتابة أوَّل نص فوقواقعي عنوانه : (حقول مغناطيسية) . غير متناسين إسهامه في الحركة الأدبية (دادا Dada) أي الدادائية ، وإساهمه مساهمةً كبيرةً في محوها وإفلاسها وتراجعها .
في عام 1921م اجتمع مع الطبيب النمساوي سيغموند فرويد في العاصمة النمساوية فيينا ، وبعدها اتجه بقوةٍ مندفعاً يسبر أغوار الأوتوماتيكية النفسية للبشر.
تزوج الشاعر أندريه بروتون من زوجته الأولى «سيمون كان» في 15 أيلول 1921، وانتقل الزوجان إلى شارع فونتين رقم 42 (في منطقة بيغال) في باريس في 1 كانون الثاني عام 1922. أصبحت الشقة التي سكناها في شارع فونتين في باريس مقراً لمجموعة أندريه برتون التي تضم أكثر من 5300 قطعة: اللوحات الحديثة والرسومات والصور الفوتوغرافية والمنحوتات والكتالوجات الفنية والكتب وأعمال الفن الشعبي والمجلات والمخطوطات والأوقيانوسي (الأعمال الإبداعية التي قام بها السكان الأصليون في جزر المحيط الهادئ وأستراليا).
في عام 1924 م نشر البيان الفوقواقعي الأوَّل الذي كان بمثابة ثورة عارمة لم تهدأ حتى الآن.
كانت تلك الحركة عند نشأتها ، متجاوبةً من الناحية الأدبية مع الماركسية ، فالماركسية كانت تسعى لتبديل العالم ، والفوقواقعية تسعى لتبديل الحياة ، لكن سرعان ما انسحب أندريه بروتون من محيط الماركسية لأنها تقيِّد حريّة الأخلاق . في مرحلةٍ لاحقة ظهر ( البيان الثاني للفوقواقعية ) وهو لا يقلّ أهميةً ولا شأناً عن البيان الأوَّل ، لأنَّ أندرييه بروتون تعمّق كثيراً في دراسة منهج الفوقواقعية من الناحية الفلسفية ، وبدأ يجابه بقوة جميع الانحرافات الانتهازية التي قد تقف في طريقه ومسار تجربته الغنية.
في عام 1930، أسس مع الشاعر بول إيلوار Paul Éluard مجلة جديدة عنوانها (الفوقواقعية في خدمة الثورة) بعد أن كتب مؤلفه الشهير (نادجا) بعامين .
لقد أجمع العديد من النقّاد بأنّ أروع آثار الشاعر أندرييه بروتون هما : (الحب والمجنون) و(ناديا) وهما عملان نثريان بامتياز ، أمّا أعماله الشعرية فقد نالت شهرةً عاليةً بين معظم ما كتبه الشعراء المعاصرين من قصائد ، وصار له أصدقاء كثر من أمثال :غليوم أبولينير Guillaume Apollinaire ، وجاك بريفير Jacques Prevert، وبول كلوديل، Paul Louis Charles Claude، والشاعر والروائي والمحرِّر لويس أراغون Louis Aragon) (، وسان جان بيرس، و الشاعر الفرنسي بول إيلوار وهو الاسم الأدبي لـ يوجين إميل بول جريندل، (1895ـ1952)، كان واحداً من مؤسسي الحركة السريالية.
وفي عام 1932م نشر كتابه الهام (الأواني المستطرقة) الذي أحدثَ ضجةً كبيرةً في أوساطِ المثقفينَ والشعراء. كما ألّف بروتون العديدَ من الكتبِ والمجموعاتِ الشعريةِ التي تركت أثرها الكبير في عالمِ الأدبِ بشكلٍ عام ، والشِّعرِ بشكلٍ خاص . مثلَ كتاب : مختارات من الدعاية السوداء ـ الحب المجنون ـ أهزوجة لشارل فورييه Charles Fourier ـ أركان رقم 17 ـ المصباح في الساعة الدقاقة. وغيرهم كثير.
وهذا مقطع من قطعة نثرية كان قد كتبها عن جمال النساء:
الجمال النسوي
الجمال النسويّ ينصهر ، مرَّةً أخرى في بوتقة ِ الحجارةِ النادرةِ جميعاً وهو لا يثيرنا ولا يملأنا حماساً ، ولا يجنّ جنونه أكثر منه. في تلك الهنيهة التي بمقدورنا أن نتصوَّره فيها عندما كان كامل التحرَّر من الرغبة في إغواء هذا أو ذاك أو هؤلاء . وأولئك بقطبيتهم جمالٌ دون هدف ٍ مباشرٍ دون مصيرٍ يعرفه هو زهرةٌ ما سمع بمثلها مكوّنة من هذه الأعضاء المبعثرة كافّةً في سرير له أنْ يدَّعي بأنَّ حدوده هي حدود الأرض.
في هذه الساعة يبلغ الجمال أوجّه الأرفع فيمتزج بالبراءة وهو المرأة الكاملة التي فيها كلّ ما كان ، وكلّ ما هو مدعوٍّ إلى أن يكون . نراه يستحم ، يا لجمالِهِ وحسنِهِ فيما سيكون هذه المرة ، القدرة المطلقة قدرة الوجدانية الشاملة وهي سلطان الليل تخنق المقدّرات الاتفاقية الشكوك المشتعل يستمر على بنيانه المدخِّن ، بنيانه الأكمل . أيكون الطقس صاحياً أم ستنهمر الأمطار ؟
زوايا الغرفة المأهولة تغرق في النعمى فتبدو الغرفة جميلةً كما لو كانت فارغةً . الشَّعْر البطيئ على الوسادات يترك خيوطاً بها تتعلّق خصلة الحياة المتصرِّمة بالحياة التي ستعاش ، التفصيل العاصف الذي أصبح مفترساً يدور في قفصهِ الصغير كقفص ابن عِرسٍ ،متسارعاً ليخفق الغابة كلّها بعَدوِهِ .
وبين الحكمة والجنون وهما اللذان عادةً ما يحدّ بعضهما من جموح بعضهما الآخر ، ما يشبه الهدنة . المصالح الكبرى تكاد لا تنال بظلِّها الناحل الواهي من الجدار الرفيع المتدرِّج الذي تختط ّ لكلِّ إنسان في حناياه الصور الدائمة الاختلاف ، صور لذَتِهِ وألمهِ . ومع ذلك فيبدو لنا دائماً ، كما في حكايةِ من حكايات الجنِّ ، أنَّ امرأةً مثالية قد نهضت قبل أن تحين الساعة وفي جعدات شعرها سقطت آخر نجمةٍ ، هذه المرأة ستخرج من بيت معتم ، وفي يقظةٍ يوميَّةٍ ، ستجعل ينابيع الأنهار تغنّي في النهار ، ويا باريس أنتِ التي تدخرين الجمال والفتوة والعافية كم أودّ لو أعطيَّ لي أنْ أعتصر من لَيلكِ الذي لا يتجاوز الساعات المعدودات ما يحتويه زيادةً عن الليل القطبي . لا لم يكتب الاستسلام على حجر الرّقاد المائج . فالنسيج الهائل القاتم الذي يحاك كلَّ يومٍ كشبكة العنكبوت يستقطب عينين مخفيتين هما عينا نصرٍ محقَّق .
كان الشاعر أندريه بروتون يتابع ما كانت تصدره مجلة (نثر وشعر) وهي من المجلات الهامة التي كان يشرف عليها الشاعر بول فور الغنائية ، وذلك في سبيل بلورة رؤيته الشعرية التي لم تكتمل وكانت غير واضحة المعالم آنذاك.واستكمالاً لخطته توسيع علاقاته الفكرية والأدبية زار بروتون الشاعر بول فاليري في بيته . مراتٍ ومرات ، وكان النقاش بينهما يدور حول الشعر ويمتدّ طويلاً .
زار أندريه بروتون الشاعر بول فاليرى فى بيته، حيث دار بينهما نقاشٌ طويلٌ حول الشعر، وحول الشاعر استيفان مالارمه Stéphane Mallarmé بالخصوص. وعن ذلك كتب يقول : (لفترةٍ طويلةٍ، كان الشاعر بول فاليرى بالنسبة إليَّ اللغز الكبير. وكنت أحفظ عن ظهر قلب نصاً جميلاً له) بعنوان : (سهرة مع السيد تاست) الذي صدر عام 1896 م، في مجلة (CENTAURE) التي كان واحد من أعمدتها ومؤسسيها . ولم يكن قد أنقطع أبداً عن تقدير وتعظيم هذا النص إلى درجة أنَّ شخصية السيد (تاست) كانت تشعره أحياناً بأنها تنزل من إطارها، وتأتي إليه تجترّ اعتراضاتها الخشنة وشكاياتها. وبالنسبة إلى الشاعر بروتون، كان الشاعر بول فاليرى قد بلغ الشكل الأرقى والأسمى. فقد ابتكر شخصيةً جعلت بروتون بأنها تتحرَّك، وأنها تأتي لملاقاته بين وقتٍ وآخر. ويعترف أندريه بروتون بأنه تعلَّم من الشاعر بول فاليري الكثير. وكان فاليري يجيب عن جميع أسئلته بهدوءٍ وصبرٍ قائلا له (أنا لست من أولئك الأشخاص الذين يخافون أن يتقاسم معهم الآخرون أفكارهم وآرائهم. إنَّ التبشير على هذا النحو هو على النقيض مني تماماً. وكل واحد يرى ما يراه). لكن بعد أن أصدر الشاعر بول فاليرى مجموعته “LA JEUNE PARQUE” أصيب أندريه بروتون بخيبة أملٍ كبيرة، فانقطع عن مراسلته وانقطع عن زيارته إلى بيته الذي اعتاد أن يزوره ، وكان لا يزال يتجرع مرارة تلك الخيبة وفقدان الثقة عندما قرأ (أناشيد مالدورور) للشاعر لوترايمون ، عندئذ أحس بهزّةٍ عنيفة لم يعرف لها مثيلاً قبل ذلك، وأحس بأنَّه وضع يده على الأسرار الحقيقية للشعر والفن بشكلٍ عام ، وأوَّل مرَّة كان قد رآه كانت في ليلة 10 أيار 1916م . وكان حينها يتلقى العلاج في المستشفى بعد أن أصيبَ بجرحٍ غائرٍ في الحرب. ومنذ ذلك الحين ، أصبح يلتقي به يومياً تقريباً إلى أن فارق الحياة . لقد كان شخصاً ضخم القامة. وكان يتمتع بكاريزما قوية حتى بات في بعض الأحيان رجلاً مرعباً ، وزائغ النظرات من غير تركيز . وكان يجسِّد الغنائية فى معناها الحقيقي دون نقصان. وفى خطواته كان يجرّ موكب أوروفيوس المهيب . ويضيف أندريه بروتون قائلاً كان الشاعر غليوم أبولينير الشاعر الفذ الذي كتب (موسيقيّ سانت- سيري)، وكان بطل (القصيدة الحدث)، و(أغنية العاشق السيئ الحظ)، و(مهاجر لاندررود)، و(منطقة)، وأيّ رسولٍ ومبشِّرٍ ذلك المفهوم الذي يحتم على كل قصيدة من قصائده أن تكون تذويباً واندماجاً كاملاً لكل وسائل المؤلف وأدواته، ثم تمضي إلى مغامرتها الخاصة بها ، خارج الطرق والأدوات والأساليب المعدّة مسبقاً ، والمهيَّأة والمسطَّرة بخطوطها الخاصة المستقيمة والمنحنية ، بغضِّ النظر عن النجاحات التي تم إحرازها سابقاً.
من الواضح أنَّ هناك تصادم عنيف بين الكلمات الغريبة النادرة .فقد شهد عام 1916م الكثير من الأحداث الهامَّة والتي لها أثر كبير عند أندريه بروتون . فقد التقى جاك فاشيه “J. VACHE” الذي كان له تأثير كبير وقوي في شخصيته وفي فنه وإبداعاته تأثيراً قوياً وحاسماً ، والذي كان يَسخَر من كلِّ شيء. حيث يقول بأعلى صوته مستهزءاً (نحن لا نحبّ لا الفن ولا الفنانين). وكان يقول أيضا بأنه يتحتم على الفنان أن يبتكر حساسيته الخاصة به وشعوره الخاص به أيضاً من خلال تصادم عنيف بين الكلمات والمفردات النادرة. فى نفس هذا العام 1916م ، كتَبَ أندريه بروتون قصيدةً مطوَّلة بعنوان: (طريقة) ولشدّةِ أهميتها وحبه لها بقي حريصاً على وضعها في مطلع كل مجموعة شعرية جديدة يصدرها،في تلك الأثناء مرض وأرسِلَ إلى مصحةٍ للأمراض النفسية ، حيث اكتشف سيغموند فرويد وطلب صداقته . عند نهاية الحرب العالمية الأولى في 11 نوفمبر 1918، استقر أندريه بروتون في فندق بساحة “البانتيون” وكتب أوَّل رسالةٍ إلى تريستان تزارا Trisan Tzara) (16 نيسان 1896 ـ 24 تشرين الأوّل 1963) الذي كان يتزعم الحركة الدادائية في العاصمة السويسرية زيوريخ. في العام ذاته ، أسس مع كل من (لويس أراغون Louis Aragon ) و(بول أيلوار éluard Paul) وفيليب سوبو Philippe Soupault (1897-1990) وهو من مؤسسي الحركة السوريالية.مجلة “أدب” التي نشرت في عددها الأوَّل مختارات من أشعارالشاعر الفرنسي لوترايمون. كما أصدر مجموعة شعرية تحت عنوان (جبل التقوى)، ومع فيليب سوبو ساهم في القيام بالتجربة التي أطلق عليها تسمية (الكتابة الآلية).
وفي ما بعد، كتب عنه يقول (كان فيليب سوبو Philippe Soupault مثل شعره، رشيقاً وحيوياً جداً، ولطيفاً ، ومتحفظاً، ومحبّاً للحياة ، كان يحب المسافرين الكبار مثل آرثر رامبو Arthur Rimbaud ، وبول فاليري Paul Valéry، وفاليري لاربو Valery Larbaud) ، وساندارس Sanders الذي كان يعرفه شخصياً. ولم يكن قد قرأ كثيراً في الفكر والفلسفة والأبداع الأدبي والفني غير أنه كان ملماً إلى حدٍ كبير بالأدب الانكليزي. ، وكان يبدو مغرماً بالرواية الانكليزية أكثر من الشعر. أما عن لويس أراغون Louis Aragon الذي تعرَّف عليه فى نفس الفترة التي تعرف فيها على فيليب سوبو، فقد كتب أندريه بروتون يقول “في بدايات علاقتي بفيليب سوبو، كان لويس أراغون يضع فيلون السكندري “VILLON” فوق كل الشعراء الحداثيين . أما بالنسبة إلى الشعراء المعاصرين، فقد كان يقدِّر كثيراً الشاعر غليوم أبولينير في مجموعته “AL COOLS”، والشاعر والمسرحي الفرنسي جول رومان Jules Romains، واسمه الحقيقي لوي فاريغول Louis Farigoule ، في مجموعته “أناشيد وصلوات”.
لقد فتح “بيان دادا” الأبواب على مصراعيها في عام 1920م، فقد جاء تريستان تزارا Trisan Tzara وأيضا بنجمان بيريه Benjamin Perry إلى باريس. وفي بضعة أشهر، غزت الحركة الدادائية باريس، واستحوذت على إعجاب مثقفيها.
عندما أحسَّ أندريه بروتون بأنَّ الدادائية لم تحدث تلك (الرجة القوية) أو (الهزّة العنيفة) المبتغاة، قرَّر أن يعمل على إعداد مؤتمر عالمي للدفاع عن الفكر الحديث ، يحضره كل القادة والمتزعمين لمختلف التيارات الأدبية والفكرية والمعرفية والفنية الطلائعية. غير أن المؤتمر لم يتم تنظيمه لأسبابٍ عديدة ، بل لأنَّ فكرته التي طرحها ستحدث قطيعةً حقيقية بين تريستان تزاراTrisan Tzara وبروتون André Robert Breton، الذي كتب عن ذلك يقول : (كل ما أعتقده أن الخيبة الكبيرة التي أصابتنا جميعاً متأتية من أن تريستان تزارا خالف الصورة التي كانت مرسومة عنه فى ذهني: شاعرٌ، نعم، بل شاعرٌ كبيرٌ في بعض الأوقات أو في بعض الأحيان . غير أنَّ الضجة الكبيرة التي أحدثها قدومه إلى العاصمة الفرنسية باريس أفقدته عقله وطار صوابه ، وأنا لا أقول هذا الكلام لإثارة أي جدل ، بل اقتصر على وصف المشاعر والأحاسيس التى اعترتني في ذلك الوقت. وكان تريستان تزارا Trisan Tzara يمزح، ويلعب بالكلمات كيفما شاء، ويعيد أدواراً أعجبت البعض ، ولاقت قبولاً كبيراً ، فهو يعتمد على التأثير الذي يمكن أن تحدثه جاذبيته الشخصية وما يتمتع به من كاريزما . وكان (بيان دادا) أي البيان الذي صدر باسم الدادائية عام 1918م يبدو وكأنه يفتح الأبواب على مصراعيها، لكنَّ هذا لم يحدث قط. وفي فترة القطيعة هذه بينه وبين الحركة الدادائية، وزعيمها تريستان تزارا Trisan Tzara ، سطع نجم أندريه بروتون André Robert Breton وأصبح منارة كل الشبان المتطلعين إلى فن طلائعي جديد يعكس روح العصر الذي يعيش فيه، ويحطم القيم والتقاليد والعادات البالية، ويكشف عن المحرم والممنوع والمسكوت عنه، ويعرّي الرأسمالية ويفضح عيوبها وأساليبها ، وعنفها ، وقبحها، الذي أظهرته في أقبح صورة لها خلال الحرب العالمية الأولى. فقد كان بروتون مسكوناً بالتجديد والتطوير والتحديث، وبالحلم، وبالثورة. وكان يمتلك كل المقومات التي تؤهله لأن يكون قائداً فذاً حاملاً ومدافعاً عن الأفكار والمفاهيم والنظريات الجديدة. إلى جانب كل هذا وذاك، كان يتسم بجمال فطري تم وصفه بأنه جمال (ملائكي) على حد تعبير الشاعرة وسيدة الأعمال ادريان مونييه Adrienne Monnier . ولم يكن يبتسم، بل كان يضحك أحيانا ضحكة تهكمية قصيرة لها خصوصيتها ومميزاتها ، بحيث لا يحدث أي تعبير في أسارير وجهِهِ تماماً مثل النساء المنشغلات بجمالهن الأخّاذ . وربما لهذا السبب أو غيره لا نعرف ، استطاع أندريه بروتون أن يجذب إليه ألمع الأدباء والمفكرين والشعراء والمبدعين والفنانين الشبان من أمثال الشاعر الفرنسي السوريالي روبرت ديسنوس Robert Desnos (1900 – 1945) م وهو الذي لعب دوراً هاماً ورئيسياً في الحركة السريالية في عصره. والشاعر الفرنسي رنيه كروفيل (1900 ــ 1935) أحد أبرز وجوه الجيل السورّيالي الأول، وجاك بارون Jacques Baron ، والرسام والنقَّاش الفرنسي أندريه ماسون André Masson (1896 – 1987) م ، والشاعر السوريالي والكاتب والناقد والممثل والمخرج المسرحي الفرنسي أنطونين أرتو Antonin Artaudالذي وُلِدَ في مرسيليا عام 1896 – توفي في باريس عام 1948) ، وميشال ليريسMichel Leiris . وحالما تأكد من قوة سلطته ونفوذه ، أصدر بروتون (البيان السوريالي) (Manifeste du surréalisme) بهدف توضيح أهداف الحركة الفنية والشعرية الجديدة ومراميها التي تسعى إلى مواصلة ما كانت قد بدأته الدادائية فى سنوات ظهورها الأولى. وفي (البيان السوريالي) (Manifeste du surréalisme)هو يمجِّد الحرية والخيال اللذين اعتبرهما “فوق كل شيء” وهاجم (الواقعية) التي لا تهتم بالأشياء والمواضيع الأخرى إلّا عندما تكون نافعةً ومنطقيةً بالنسبة إليها. أما الإنسان كجوهر ، (هذا الحالم النهائي في العالم)، والذي يزداد يوما بعد يوم رفضاً ونقمة على وضعه المأساوي الخاص ، فهو مضطر تحت ضغط متطلبات الحياة اليومية الضرورية ، أن يلغي تماماً دور الخيال، أو أن يحطّ من قيمتِهِ، وذلك على الرغم من أن هذا الخيال وتلك التصورات كان جد خلاق وإبداع بالنسبة إليه خلال فترة الطفولة الأولى وفترة الشباب .
لقد قفزت حياته من كل ابتكار ، ومن كل حلم وتصوّر، لتغدو مُجرَّد طريق ممل نحو النهاية ، أي نحو الموت . وفي البيان السوريالي الذي صدر عام 1924 م ، أشاد الشاعر أندريه بروتون بالعديد من المبدعين من فترات تاريخية سابقة مثل : لوتريامون الكونت لوتريامون Comte de Lautréamont، ودوناتا ألفونس فرانسوا دى ساد. معروف بـماركيز دي سادDonatien Alphonse François, ، والشاعر شارل بودلير Charles Baudelaire، والكاتب والروائي البريطاني غراهام سويفت Graham Swift ، والأديب والشاعر والروائي فيكتور ماري هوغو Victor Marie Hugo،والفيلسوف الكاتالوني رامون لول Ramon Llull ، والروائي والحقوقي جوستاف فلوبير Gustave Flaubert ، والكاتب والمترجم الفرنسي جيرارد دي نيرفال ، والشاعر والناقد الفرنسي شارل بودليرCharles) Baudelaire1821-1867) جان نيكولا آرثر رامبو أو آرثر رامبو Arthur Rimbaud وهيراقليطس الفيلسوف اليوناني ما قبل سقراط ،وجيرمان نوفو GermainNouveau
، ولمعاضدة ما جاء في (البيان السوريالي)، أصدر أندريه بروتون كتاب (الثورة السوريالية). بهدف توضيح أهدافها ومراميها ، كتب يقول : (تمكنت خلال السنوات الأخيرة أن أعاين مساوئ نوع محدّد من العدمية الثقافية التي يكمن فيها مكرها وخبثها كونها تُطرَح في أيِّ مجالِ كان، مسألة الثقة المتبادلة الأكثر عمومية والأشد انعداماً من أيِّ جدوى. خلل الاضطراب والقلق وعدم الاستقرار الذي يتبع ذلك ، من هنا كان التجديد ضرورياً ، في المعنى الأكثر تحرراًوابتكاراً ، لا بد أن يكون فى كل المواضيع كما لو أنه معيار كاف للتقييم . خارجه ليس هناك خلاص. لذا هو يبرِّر بشكل مغالٍ في الإلحاح ومحاولات سخيفة فى الرسم، وفي الشعر).
السريالية أو الفوق واقعيّة Surrealism، مُشتقة من الفرنسية (Surréalisme) تعني حرفياً «فوق الواقع»، وهي حركة ثقافية في الفن الحديث والأدب تهدف إلى التعبير عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق . فقد بدأت الحركة السوريالية تجتاح القارة الأوروبية منذ وقتٍ مبكر ، و قد لقيت المدرسة السريالية رواجا كبيراً بلغ ذروته بين عامي 1924-1929 م وكان آخر معارضهم في باريس عام 1947. من أهم أقطابها الفنان الإسباني سلفادور دالي (1904-1989). ومن بعض أعماله الفنية : (إصرار الذاكرة) و(الخلوة) و (البناء) و (الآثار) . فقداجتاحت الحركة السوريالية أوروبا، والعالم بأسره، وأصبح لها أتباع يتطلعون إلى الشاعر أندريه بروتون، متلقفين أقواله وإرشاداته وما يتلوه من حكمة بلهفة، مطبقين نصائحه بوفاء وإخلاص شديدين . وكثيراً ما كانوا يردِّدون بإعجاب شديد الجمل الواردة فى “البيان السوريالي”، مثل (هذا الصيف، والغابة من بلور ،الزهور زرقاء. الأرض المكسوة بخضرتها المبهجة لا تحدث فعلا أكثر من ذلك الذي يحدثه عائد من الموت الزؤام . أن نحيا بفرح، أو نكف على أن نحيا، هما الحلاّن الخياليان) وقد ازدادت الحركة السوريالية قوة وانتشارا وشهرة بعد أن انضم إليها كل من الشاعر السوريالي والممثل والناقد والكاتب والمخرج المسرحي الفرنسي أنطونين أرتو Antonin Artaud (1896 – 1948) ، و الشاعر الفرنسي وواحد من مؤسسي الحركة السريالية بول إيلوار هو الاسم الأدبي لـ يوجين إميل بول جريندل، ( 1895 ـ 1952) م و لويس أراغون، ورينيه شار وآخرين وتحت تأثير أنطونين أرتو ، أصدر السورياليون نصوصاً اتسمت بعنف اللهجة مثل “افتحوا أبواب السجون وسرِّحوا الجنود”، و”رسالة إلى الدلاي-لاما”، و”رسائل إلى البابا”، و”رسالة إلى المدارس البوذية”، و”رسالة إلى عمداء الجامعات الأوروبية”. وعن لغة هذه النصوص، كتب الشاعر أندريه بروتون يقول : ( لقد تخلَّصت اللغة فى هذه النصوص من كل ما يمكن أن يمنحها طابعا قشيباً زخرفيا. وكانت تقتصر على ما يمكن تسميته “موجة الأحلام” التي تحدَّث عنها الشاعر لويس أراغون Louis Aragon). لغةً قاطعة، لمَّاعة، مثل الأسلحة. وأنا أحب هذه النصوص وأعشقها بخاصة تلك الموسومة منها بطابع أنطونين أرتو .
فى السابع والعشرين من شهر أيلول 1966م، توفى الشاعر الفرنسي الكبيرأندريه روبريت بروتون ودفن فى مقبرة “الشمال” في العاصمة الفرنسية باريس ، بحضور عدد كبير من الأصدقاء والمعجبين. وكان قد كُتِبَ على قبره عبارة “أبحث عن ذهب العصر”. كما كان ملحداً .