العلَّامة إبراهيم عُبادة .. والعزف على ناي الوحدة
صبري الموجي – مصر
لم تَحُل سنه الكبيرة بينه وبين ممارسة عمله الأكاديمي كأستاذ للنحو وعلم اللغة بجامعة بنها، والإشراف علي الرسائل العلمية، والمشاركة في المؤتمرات والمحافل التي تناقش قضايا اللغة العربية وسُبل تطويرها.
كان وجوده بكلية الآداب ببنها ضمانة اعتماد وجودة لذلك الصرح العلمي الوليد، الذي صار بمولده مُجبرا علي الدخول في حلبة المنافسة مع الكليات والمعاهد العلمية المناظرة، لكنه – أقصد ذلك الصرح – حافظ علي استقراره، وثبات قدمه بوجود ذلك العلم باعتباره ربَ الصرح، وربان السفينة، المنوط به وصولها إلي بر الأمان، ومواجهة الأعاصير المناوئة، والتيارات الهدامة.
في مجال اللغة العربية، كان لكل صرح علمي رجله الفذ، وفارسه الأوحد، وبطله المغوار، الذي تنتهي إليه الكلمةُ وفصلُ الخطاب، فكما كان لجامعة الإسكندرية عبده الراجحي، ولعين شمس رمضان عبد التواب، وعوني عبد الرءوف، وللقاهرة عبد الصبور شاهين، ومختار عمر عن دار العلوم، وفهمي حجازي عن كلية الآداب، فإنه كان لجامعة بنها العلامة محمد إبراهيم عبادة، الذي ما انفك يذود عن حياضها، ويرفع رايتها، يُردد ما قاله عنترة : أغشي الوغي وأعف عند المغنم.
عُرف عبادة بهمته العالية، ونشاطه في التأليف في مجالي النحو واللغة، فكانت كتبه بغية الدارسين، ومرجعَ الباحثين، ومُرشد الأكاديميين؛ لما امتازت به من شمول الفكرة، وجمال الصياغة، وروعة السبك، ورغم أن مادة النحو جافة في طبيعتها، إلا أنها تختلف إذا صيغت بأسلوب أديب، وعقلية مُفكر، وهكذا كان عبادة حفظه الله !
صنف عبادة العديد من الكتب، التي شرحت اللغة، وبسَّطت علم النحو منها : النحو العربي : أصوله وأسسه وقضاياه وكتبه : مع وصله بالدرس اللغوي الحديث، والجملة العربية : مكوناتها- أنواعها- تحليلها، وغيرهما من الكتب النافعة الماتعة، التي إن دلت فإنما تدل علي رجاحة عقل عبادة، وإلمامه بفنون ذلك العلم، ومعرفة خباياه.
امتاز عبادة بحنوٍ وحلم مُنقطع النظير، ربما لأنه لم يُرزق الولد، فجعل كلَ الطلبة والباحثين أبناء له، فلم يدخر في توجيهم والأخذ بأيديهم وسعا، ولم تكن لأحدهم مشكلة بحثية، أو حتي مادية إلا يسرها لهم، وساعدهم في حلها.
في نقاشاته بمجلس القسم، رغم أنه أستاذ الكل، ولا يجرؤ أحدٌ علي مراجعته اعترافا بفضله، إلا أن لسان حاله كان كما قال الفرزدق في عليّ زين العابدين :
يُغضِي حياء ويُغضَي من مهابته… فما يُكلَم إلا حين يبتسمُ .
رغم علو مكانة عبادة ، إلا أنه امتاز بتواضع جم، جعله يعيش كما يعيشُ البسطاء، يبتاع في السوق، ويستقل المواصلات العامة، ويُخالط البسطاء، ويساعد المُحتاجين، مع محافظته علي كونه عالما لا يُشق له غبار، وتُمتطي له المطايا، يرفع وجودُ اسمه مُشرفا علي رسائل الباحثين رءوسهم إلي عنان السماء.
وقديما قيل: إن فاقد الشيء لا يعطيه، إلا أن حال العلامة عبادة جاء ليضرب ذلك المثل في مقتل، إذ إنه حُرم زينة الذرية من صلبه، فاستعاض عنها بأبوة أشمل وأعم، فكانت أبوته لكل الباحثين والدارسين.
تركتْه رفيقةُ دربه منذ فترة إلي رحاب ربها، فعاش وحيدا رغم تقدم سنه، وحاجته إلي عون وسند وفاء لذكراها.
لم يشُق يوما علي باحث، ولم يُلزم أحدا بما لا يلزم، وحيث إن راحة المُناقشين في الانتقال لقاعة المناقشة، هي هدف كل الباحثين؛ لتكون مناقشتهم لهم بردا وسلاما، إلا أن عبادة، بروح العالم وشعور الأب، كان يرفض مُطلقا أن يوفر له أحدٌ وسيلة مواصلات، ويُفضل المواصلات العامة، مُتكبدا مشقة العرق والجهد، حِسبة لله، وإيمانا برسالته.
أشرف العلامة عبادة علي التسعين من عمره ، إذ إنه من مواليد 1933م، وما زالت ذاكرته حاضرة، وقلبُه عامرا بالإيمان والإخلاص للعلم والبحث، يتغلب علي شبح الوحدة بالذكر والدرس والمطالعة.
كان الحديث عنه مُبيتا في نيتي، ولكن عجّله اتصالٌ هاتفي مساء أمس من ابن أختي د. محمد صلاح النحوي الشاب، والذي عاتبني عتاب المُحب بقوله : نسيت أن تكتب ضمن ما تكتب عن أستاذنا د. محمد إبراهيم عبادة، فعزمت صبيحة اليوم التالي علي أن أكتب عن عبادة العازف علي ناي الوحدة.