تمظهرات الإيقاع في رواية “آرابيا وأشياء أخرى” للكاتب الفلسطيني زياد حميدان

د. عمرو كناوي | المغرب

     ظهرت، في السنوات الأخيرة، مجموعة من المؤلفات، الإبداعية والنقدية،يؤكد فيها أصحابها، على أهمية الخوض في موضوع خطاب الذاكرة،أوما يصطلح على تسميته بالتخييل التاريخي بكل ما أوتي الكاتب،من قدرةعلى استحضار الأحداث التاريخية،وتجسيد إيقاعاتها ونقدها،فمحاكمة الفاعلين في مجاريها. ومن الكتاب والنقاد الذين حاولوا ركوب مغامرة  الإيقاع وتأكيد جدواها في النص الأدبي نذكر:
– الإيقاع الروائي. دراسة في البنية الإيقاعية ( 1994) لأحمد الزغبي.
– “تراتيل لأوجاع الوطن والمنفى”( 2018 ) ليحيى الشيخ
– “سمفونية العشق الأخير”(1903) للشاعر محمد الغريسي.
-“علي وعائشة. سمفونية الحب على أرض السواد”( 2008) للعراقية علياء الأنصاري.
-سفونية الموتى(2018) للروائي الإيراني عباس معروفي، وغيرها من الأعمال التي أذكت فضول النقاد لمعالجة تمظهرات الإيقاع في النص الأدبي شعره ونثره.
وفضلا عن هذه الأعمال الوازنة، لابد من التذكير بأهمية كتاب:” نقد الإيقاع” (critique du rythme) 1982، لهنري ميشونيك، الذي راهن فيه على استحداث الإيقاع الشعري، في تجاوز للطروحات النقدية السابقة. وتدخل محاولة الكاتب الفلسطيني “آرابيا وأشياء أخرى” 1لزياد حميدان، ضمن هذه التجارب الإبداعية الحداثية.
إن الحديث عن زياد حميدان، إنما هو حديث عن أديب فلسطيني متعدد. كتب في مجالات السياسة والسوسيولوجيا وحقوق الإنسان، وغيرها من حقول المعرفية المختلفة. وتكفينا الإشارة منها إلى:
– حقوق الإنسان بين الواقع والمآل. مقاربة سوسيولوجية.
– حماس بين الخطاب والسلطة
– سيميولوجيا ساحة الثورة. ميدان التحرير. (فضاء ثورة 25 يناير أنموذجا).
– جرائم الفساد والجرائم الا قتصادية.
أمافي مجال الأدب، فقد أفاد المكتبة العربية بروايتين مائزتين، كان لي شرف قراتهما معا، وهما: “شراق العشق”(2017)، و”آرابيا وأشياء أخرى”(2020)، التي نحن بصدد تقديمها اليوم. وتتكون هذه الرواية من 29 فصلا، تمتد على مساحة نصية تقدر ب 282 صفحة.
بهذين العملين الروائيين الوازنين،يكون زياد حميدان قد ارتقى إلى مصاف الكتاب الحداثيين في عالم الكتابة الروائية.
ونحن نقرأ رواية “آرابيا وأشياء أخرى”، استوقفتنا مجموعة من التمظهرات الإيقاعية، التي تعود بنا إلى مستذكرات عرفت ذيوعا وانتشارا على مستوى الإبداع والنقد.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن اهتمامنا بموضوع الإيقاع الروائي، يعود أساسا إلى شدة إعجابنا بعملين أدبيين، غاية في الإمتاع والمؤانسة:
أولهما: العمل النقدي، الموسوم بعنوان : “الإيقاع الروائي.دراسة في البنية الإيقاعية في الرواية العربية والغربية” للناقد السوري أحمد الزغبي.
ثانيهما: رواية “سمفونية الفوضى” ،للكاتبة المغربية نعمة ابن حلام، التي أشرفنا على قراءتها وتصحيحها، ووضع تقديم خاص بها.
وتجدر الإشارة، إلى أن مقاربة إيقاع الفنون، تختلف باختلاف أنواعها وتعدد أجناسها. ذلك أن الإيقاع في فن الموسيقى، ليس هو نفسه في الفن التشكيلي أو فن الشعر، بل إننا لا نعدم أن نجد اختلافا حتى على مستوى الجنس الأدبي الواحد، تبعا لقناعة الدارس أوالمبدع، وحسب ما تقتضيه طريقة بناء النص ومقومات تشكله. والإيقاع  (rythme) أو ما ما يصطلح على تسميته بالتناغم النصي، يقتضي، ضمن ما يقتضيه، مراعاة زاوية نظر المبدع، وما يسم نصه من طبيعة الأحداث، وتدفق زمني وجريانه، وتوارد لحركة المكان فيه. وللإيقاع، كما هو معلوم، علاقة بنفسية الإنسان أو الشخص المريض تحديدا، إذ من شأن الإيقاع أن يعالج ما يعانيه من اكتئاب وتذمر، عن طريق الاسترخاء والإنصات الممعن لما توحي به النبرات في ائتلافها وتناغمها، ومدى قدرة المريض على التماهي معها، حين ترتقي به من وضعية مرضية، إلى حالة من التعافي عن طريق الاستمتاع بسحر الأنغام وجاذبية الإيقاع.
ولعل ما يهمنا من تمظهرات الإيقاع هنا، ما يرتبط بالنص الروائي، ونص “آرابيا..” تحديدا، الذي لم ينل حظه وروايات أخرى، من الدراسة والتحليل، رغم ما عرفه الإيقاع، على مستوى الشعر والموسيقى والتشكيل من حضور لافت واهتمام متزايد، ما شجع النقاد على تناول موضوعه على مستوى الإبداع الروائي في نصوص أدبية حديثة ومعاصرة من أهمها:
– “الزيني بركات”(1990) لجمال الغيطاني
-“ربيع قرطبة”(2017)  لحسن أوريد
– و”ثورة المريدين”( 2015) لسعيد بنسعيد العلوي،
وغيرها من الأعمال التي أذكت الرغبة في معالجة تمظهرات الإيقاع في  النص الأدبي بنوعيه: شعره ونثره.
إن الإيقاع، كما يدلل على ذلك أصله اليوناني، يعني التدفق والجريان. وقد ارتبط أساسا بفن الشعر،لما يفرضه من صرامة الوزن والقافية والروي، وانسجام في الإيقاعات الصوتية،..إلخ، كما ارتبط أيضا بالنص النثري،كما تشهد على ذلك  مقامات بديع الزمان الهمداني، و”رسالة التربيع والتدوير” للجاحظ، وغيرهما من النصوص التي حفلت بكثير من الظواهر الفنية والأسلوبية، والمحسنات البديعية،كالسجع والطباق والتكرار والمفارقة وعلامات الترقيم وغيرها من أنواع الإيقاع.
والإيقاع، كما يقول أحد النقاد، مشتق من(التوقيع)،أو المشية السريعة”2.(أحمد حمد النعيمي إيقاع الزمن في الرواية العربية المعاصرة. الطبعة الأولى 2004 .بيروت. لبنان. ص: 13). أما من الناحية الفنية، فهو لا يعدو أن يكون “توظيفا صوتيا، وتوجيها معنويا، لا يتحقق إلا بتطويع المبنى والمعنى، وإجادة التصوير والتخييل، وانسجام تام بين الصوت والكلمة، وبين التعبير والتركيب”3(حافظ محفوظ. مقدمة في تعريف الإيقاع نشر بمجلة الشروق بتاريخ 2005/6/18 .
وقد ارتأينا في مقاربتنا “لآرلبيا..” أن نقف على بعض ما تحفل به من تمظهرات إيقاعية، حسب ما تسمح به طريقة الاشتغال ودوائرها.
آرابيا وتمظهرات الإيقاع:
1- إيقاع المكان :
يستهل الكاتب روايته “آرابيا وأشياء أخرى”، بالوقوف على آرابيا، كفضاء مقرون بلوحة (الفنانة الفلسطينية منال ديب) ذات اللونين الأسود والرمادي، ترميزا للتعاسة ومآسي  الهجرة والتهجير. و هو فحوى الرسالة التي حاولت الفنانة الفلسيية تبليغه، بلغة التشكيل والألوان، صارخة في وجه الاحتلال والانحلال.

     إن التعبير  باللوحة، في هذه الحالة سيكون اختيارا ثوريا بلغة الأسود والبني، تعبر من خلاله منا ديب عن تشبتها بهويتها، وإحساسها بشرف الانتماء إلى وطن لا يقبل المساومة. ومما يزكي دلالة هذه الألوان، في علاقتها بالأبعاد الوطنية، حضور تمظهرين إيقاعيين من تمظهرات التشكيل، يمتزج فيهما الرسم والغناء وهما:”ليتك تكتفي بالرسم والغناء” 3 ( الرواية ص: 135): “أحسست قاعة للرسم بعد عودتي، وكنت أحيانا أطلق العنان لشغفي بالغناء والعزف”4 (الرواية ص: 134).

    بهاتين الاشارتين، يكون الكاتب قد ارتقى بالإنسان العربي من واقع مدنس، أفقده كرامته، إلى عالم حالم، قائم على استذكار  المكان واستحضارتفاصيله، بعيدا عن أي إبعاد أو مصادرة.  وما حضور ملفوظ آرابيا، على امتداد الرواية بكثافة  176 مرة، إلا  دليل قاطع على هيمنة الاستبداد، وفداحة الفقدان، وتبعات تقسيم آرابيا وبلقنتها، واسبدالها باستنبات أمكنة مستقطعة هنا وهناك، وهنالك، تفتقر إلى منطق التجاور  التداخل بين  لندن وباريس، والمعتقل والمقهى ومحطة القطار، بشكل مريب. حتى أننا لا ندري أشر أريد بهذه الأفضية بما فيها المعادية والأليفة، وما عساه يحمله محكيها من صدامية الإيقاع بين الشخوص في علاقتها بصداميات أخرى تعيد تكريس فداحة، علاقة الشرق بالغرب، كما أسست لذلك نشاة الرواية العربية: “عصفور من الشرق(1938)، و”الحي اللاتيني”(1953)،و”موسم الهجرة إلى الشمال”(1966)،و”الغربة واليتيم”(1980)، وغيرها من الروايات التي عالجت موضوع الصراع بين الشرق والغرب، وما نجم عن ذلك من طروحات  نقدية، جسده جورج طرابيشي في كتابه “شرق وغرب. رجولة وأنوثة”( 1977).

أما رواية “آرابيا وأشياء أخرى”، فقد اعتمدت في عرض هذا الصراع، على تبني  خطاب الذاكرة، وإيقاعات الأحداث، فإيقاعات الزمان والشخوص في علاقتها بفضاء المكان، الذي سي(ستتسع، دائرته لتشمل كل الإبداعات الفلسطينية، ويستبدل المكان بالفضاء، كما أفضنا في ذلك من خلال إصدارنا: “الفضاءالروائي في أعمال سحر خليفة7 (د. عمو كناوي. الفضاء الروائي في أعتمال سحر خليفة 2011).

إن المكان في رواية “آرابيا” ، فضلا عما أسلفنا، يشكل  أفضية ثلاثية الأبعاد : آرابيا، لندن، باريس، بكل ما يتفرع عنها من أفضية موازية، كالبحر في هيجانه، والشمس في ظهورها وأفولها، والحصار المستحكم بالرقاب، والمعتقل والمدرسة، والبلد بأحماله الثقيلة وذكرياته  الأليمة.

ومن شأن هذه العناصر وغيرها أن تجعل من  رواية “آرابيا..”، رواية مكان بامتياز، تأتلف فيها، دفعة واحدة، إيقاعات الأحياز والأحداث، وإيقعات الشخوص والزمان، باعتبارها نبرات تحمل من تباريح الحزن ما يجعل منها سمفونية متكاملة الأركان، تعزف الشخوص من خلالها، ما يشبه التضرع والصلاة، كلما احتدت الأزمات، واشتدت العواصف برا وبحرا، في انتظار تحقق نبوءة الحلاج :” ما رأيت شيئا إلا رأيت الله فيه”8
(آرابيا..ص 36) لمثل هذا التكثيف الإيقاعي يذوب القلب من كمد، وتتحول دوائر حيزرة المكان إلى فضاء رمادي ينذر بالاحتراق، ويتأكد أن الكتابة بالمكان ليست هي الكتابة عن المكان.
2- إيقاع الزمن:
يشكل هذا النوع من الإيقاع، مع الإيقاعات السابقة واللاحقة، سمفونية حزينة،  عاشت فيها آرابيا بين مطرقة الاستبداد العثماني وسندان الاستعمار الغربي، ينتظر جدا أن ينجم عنهما تقطيع أوصال آرابيا بين سوراقيا والأردن وفلسطين.
ولاستجلاء بعض من مظاهر الإيقاع، نستطيع استقطاع مجموعة من النصوص ذات المنحى الاسترجاعي، يستحضر فيه السارد ذكريات مظلمة، بالغة التأثير على جغرافيا آرابيا، وعلى أحوال قاطنيها السياسية والنفسية والاجتماعية. ومن أمثلة زمن الاسترجاع، قول قيس :” عاد قيس مرة أخرى ليتذكر هنسة معتقل الصحراء الذي يعود إلى عصر سحيق”9 (الرواية ص:15)، وصوت السار:”باغتته الذكريات، عائدة من الماضي لتجثم على صدره كالمصائب، أسرابا لا فرادى10( الروايةص: 12)، وقوله: “واسترسلت الذكريات أمام عيني قيس..ذكر كيف تم اعتقاله بمعية طلاب آخرين”  11 ( الرواية ص: 13)، ثم قوله : تذكر قيس الجنود..عاد يتذكر هندسة معتقل الصحراء. 12(الرواية ص: 14).

وأخيرا قوله:” لذلك اعتاد حين تستبد به عزلته العودة بذاكرته إلى أيام الصبا. نكص بذاكرته إلى الواحة العائمة على الصحراء حيث ولد.. تذكر كيف كانت شبه ميتة.13( الرواية37/36)
ولئن اتخذ إيقاع الزمن صبغة التذكر عن طريق الاسترجاع، كما بينا، فلأنه ورد في ثنايا كثيرة بلفظ الزمن نفسه كما تجليه مقاطع كثيرة من قبيل:”الحروب الصليبية، أعادوا الكرة لاستعماره عنوة بعد اندحارهم على يد صلاح الدين..يتم تجاهل إرث هذا الملك العظيم، الذي ساد على الممالك الأجلو سكسونية لسبعة وأربعين عاما”14(ص:21)، وقول السارد: “مع الفجر أطلق جيش النظام حملة عسكرية كبيرة على إقليم الوالحات”15 (الرواية ص: 25o)، وقوله أخيرا في شأن الزمن:” الزمن ياكل كل شيء، يبتلعه مرة أو يقضمه ببطء..”16 (الرواية ص:43). أوعلى مستوى الزمن نفسه كما يتبدى في انتقاد قيس للجماعات التكفيرية قائلا:”لقد انبثقت تلك الجماعات التكفيرية مرارا عبر تاريخنا، لتمارس الذبح والقتل والنهب والسبي والتدمير لكل ما هو حضاري ” 17(الروايةص: 212). و يقترب هذا المعنى من لوم قيس ل”غرام”، حين قال في حقها:  “لماذا تعودين لآرابيا، لتك البلاد التي فررت منها منذ سنوات” 18الروايةص: ؟
(ارجع إلى جانب الحوار بين قيس وغرام).وفضلا عن هذه الأزمنة، تتنوع الإيقاعات بصيغة زمن الفعل الماضي وزمن المضارع المنفي. وفي ما يلي بعض الإشارات الدالة عليهما:: “امتدت أيام وليالي قيس لبضع سنين..” 19(الرواية ص:23)، “لم يطل عمر الاحتجاجات كثيرا” 20 (الرواية ص: 174)، و أحيانا بلفظ جمل موقعة بنغمات موسيقية، كما في قول جمال مخاطبا “غرام”: “الموسيقى لا تسمع فقط بل ترى أيضا”21 (الروايةص: 160).
وبين المكان المتشظي والزمان الموبوء، شخوص مهمومة بمصير البلد،تنتقل بحذر شديد، في جو من الإيقاعات الصاخبة، تدعوها إلى ترقب مزيد مما هو  متاح من المستقطعات ومستحضرات الذاكرة.

3 إيقاع الشخوص:
تعد الشخصية من الوسائل الموضوعية والفنية التي تجلب المتلقي وتستهويه. فهي تكتسي أهمية بالغة في الكتابة الروائية. وهي تختلف من حيث حضورها وقوتها، قناعتها وإقناعها بجدوى تغيير الواقع أو تكريسه، لذلك وجب اختيارها بعناية فائقة.
وعن شخوص رواية “آرابيا”، فيمكن تقسيمها إلى شخصيات ثورية، تناصب العداء كلا من النظام وأتباعه،والاستعمار وأذنابه. ويمثل هذه الفئة، قيس ابن آرابيا، التي ظلت الأحداث “تذكره بأنه ابن لقيط وغير شرعي” 22(الرواية ص: 22)،مثقف يساري، معارض رايكالي للنظام والاستعمار، ومعتقل سابق. ضاق درعا بالواقع، فقرر الهجرة على متن قوارب الموت مع المهاجرين والمهجرين إلى لندن، هروبا من بطش السلطة، بغاية استكمال دراسته العليا في موضوع التدبير السياسي، حتى يعد العدة لثورة في الأفق المنظور، تعيد لآرابيا حريتها وكرامة أهلها.
القبطان:متقاعد في الجيش البريطاني، يعمل على تهريب المهاجرين غير الشرعيين (الحراكة)”ميلاد”: أخو غرام، سجين أفكاره الثورية، مؤنس السجناء، توفي داخل السجن عن طريق حراس السجن نتيجة موافقه.
غرام: إعلامية، ممثلة قناة فضائية فرنسية بالشرق.
جوليا:باحثة أنجليزية في تاريخ الشرق.
علي : رجعي، مناصر  للحكم القائم.
جعفر : ملحق ثقافي
عمر أخو قيس، الذي تختلف مواقفه عن مواقف أخيه.
حميد :  ثوري معارض، يستعين بالأنجليز ضد النظام الحاكم.
لويس: أستاذ جامعي…
عمر : قائد إحدى فصائل المقاومة
الشيخ العلائي: مساعد القبطان في عملية الهجرة غير الشرعية،  شخصية انتهازية، مهادنة للمستعمر تراعي مصلحتها الخاصة.
الحاكم : شخصية ديكتاتورية مستبدة.
المستعمر: جيش الاحتلال، حرس السجون..
علي.. وشخصيات انتهازية مهادنة. أماالمرأتان: جوليا وغرام، فتمتهنان على التوالي، مهنة البحث في تاريخ حضارة الشرق،  وتغطية أحداث آرابيا، وكلاهما  تجسد ، إلى جانب قيس وخالد، إيقاع الغزل في الرواية، ضمانا لاستقرارهما النفسي، وصولا إلى امتلاك الرجل وإشباع نهمهما العاطفي، بإقامة علاقة حب مع الرجل سواء كان  قيس أو خالد، لأن من شأنه ذلك أن يضمن استمرارية التصالح مع الشرق . لكن محاولتهما بناء علاقة  عاطفية مع عادل وخالد. يتساءل قيس عن الحب والحرب فيقول : أيهما أعتى: إعلان حرب أم إعلان حب؟ الحقيقة أن كلاهما لا تحتمل، لكننا لا نملك اختيارا أمام أي منهما” 23(الروايةص: 209)، لذلك اقتضت حياة قيس كمثقف ثوري، أ” لا يدين إلا بدين الثورة24 (ص 192).
حميد: الذي يؤمن بمحاربة النظام مع الاستعانة بالأنجليز..ص 192.
هذه الشخوص بمواقفها المختلفة، وأبعادها النفسية والسياسية والاجتماعية والفكرية، ستساهم جميعها، في تنظيم مختلف إيقاعات  الرواية وتأثيث أحداثها المتسارعة.

4- إيقاع علامات الترقيم:
تجدر الإشارة إلى أن استخدامات علامات الترقيم، لا تعد ترفا فنيا زائدا في مجال الكتابة، بقدر ما هي تطريز لصفحات النص الأدبي، وتحديد لأماكن الوقوف الجائز والممنوع في فضاءاته، بعيدا عن أي تسرع أو تباطؤ غير مفيد. وهي استخدامات تسهل على القارئ فهم مقاصد النص وسبر أغواره ، ومعرفة أبعاد الرسالة التي يود الكاتب إبلاغها للمتلقي.
لذلك اعتبرت علامة الترقيم بمثابة الملح في الطعام، أو هي شبيهة بالعصي التي نتوكأ عليها في كتاباتنا، كلما شعرنا بالوهن والإعياء. وهي بالتالي، مجموعة من الرموز والإشارات التي توضح معنى النص وتيسر مغالقه، وتساعد على تغيير نبراته وإيقاعاته. يقول تيودور .و. أدورنو( Theodor.w.Adorno) في أهمية لغة الإيقاع:  “لا يوجد عنصر تشبه فيه اللغة الموسيقا أكثر من علامات الترقيم” 25
ويبدو أن هذه العلامات، كثيرة الاستعمال، متعددة الاستخدامات حسب اختلاف الكتاب وطبيعة النص المكتوب. فهي التي تمكن القارئ من الوقوف على إيقاعات النص الصوتية والصرفية، وقوفا تاما أو متوسطا أو قصيرا، قصد تزويد القارئ بقسط من الراحة، وتجديد أنفاسه لمواصلة عملية القراءة. وأظن أن رواية آرابيا” بنقطها وفواصلها وعلامات ترقيمها لا تشذ عن هذه القاعدة. فعلامات الترقيم المعتمدة فيها، كالفاصلة  تشكل قاعدة عريضة إذا ما قورنت بالعلامات الأخرى. ذلك أنها  استعملت بين الجمل المتصلة في المعنى، ضمانا لتوالي مفهوم الإسراع والفجائية، كما في قول السارد “بعد لمح بصر، أتت رسائل البحر وميضا لمرتين” 26( ص: 3). أو  تأكيدا على أهمية العشق وضرورة ارتضائه والقبول به، كما في قول قيس: “من خاف العشق فقد زاغ” 27(ص:148). أو تعبيرا عن نفاد الصبر كما هو حال شخصية غرام. يقول السارد :” لم تطق غرام مع قيس صبرا، بعد أن انتظرت منه كلاما يطمئنها على وفائه لها، وهي التي تهم بالرحيل” 28(ص: 263).
و لأمر ما، لم يرد في الرواية التنصيص البتة بعلامة الفاصلة المنقوطة. ولعل السبب قد يعود، في تصورنا، إلى ظروف الكتابة التي تقتضي عدم جدوى إدراج ما يفيد الأمر و الشرطية. وانسجاما مع اقتناعنا بجدوى الإيقاع الروائي وما يكتسيه من أهمية التوظيف، فقد ارتأينا أن نلامس نوعين من علامات الترقيم، لما لهما من أبعاد دلالية،وحضور نصي لافت.
أ-  علامات التعجب:
يبلغ تعداد علامات التعجب في الرواية ما يفوق 277 علامة، تنسجم وشروط واقع مترهل، ونظام مطبع على الاستبداد، واحتلال لا يعرف المهادنة. والتعجب في تعريف النحاة، إنما هو استعظام فعل ظاهر المزية يقل نظيره. أما التعجب في الرواية، فهو صيغ كلامية دالة على الدهشة والاستغراب مما حل بآرابيا من أمر جلل، انفعلت لها الشخوص،  وانفطرت قلوبها، مخلفة آثارا نفسية عميقة تراوحت صوره بين الفرح والحزن، والذم، والتهكم، والإغراء والتحذير والتمني.. إلخ. ولنا في ثنايا فصول الرواية ما ينص على ذلك. يقول السارد:”ما إن ارتطم المركب بالماء بشدة حتى رفع قيس رأسه عن الوسادة مذعورا”  28(الرواية ص: 8). ويقول العلائي حين صرخ في وجه قيس: “اقترب قبل فوات الأوان !” 30( ص: 4).أو كما جاء في قول القبطان مخاطبا قيس والعلائي: “أتمنى لكما ليلة سعيدة على متن مركبي العظيم!31 (ص:6) وقول خالد متوسلا إلى معشوقته غرام: “أتوسل إليك، أن تجودي علي بشق كلمة، أو نظرة !” 32(ص: 140)،وأخيرا ما جاء على لسان قيس من تعبير يجمع بين التحسر والتمني: “آه لو تنصتين لكلماتي!” 33(الرواية: ص:  255)
ب- علامات الاستفهام :
تجدر الاشارة في هذا المقام، إلى أن عنوان الرواية يشكل استهلالا استفهاميا غير مؤشر بعلامة، مما يطرح تساؤلا حول مفهوم آرابيا وما يرتبط بها من أشياء أخرى. إذ من المحتمل جدا أن تتناسل عنه استفهامات أخرى ذات الصلة بأحوال الغربة والثورة ومصير البلد، سواء ذيلت أساليبها بعلامات مناسبة أم تم الاستغناء عنها.
وباعتبار علامات الاستفهام إشارات رمزية دالة،فإن تعدادها في الرواية قد بلغ 275 علامة، موزعة بين صيغتي السؤال والتساؤل،حسب درجة وعي الشخصيات بفداحة الواقع، سرعان ما عبرت عنها في مواقف متقاربة أو متباينة:
– موقف العلائي من قيس، عندما تساءل في شأنه  مستنكرا: “أي بدوي هذا الذي يعتلي البحر” 34(الرواية ص:16)
– سؤال جوليا، في حوارها مع قيس، مستفهمة عن حال قيس :
– قالت:كيف كان يومك؟
-رد قيس مبتسما: لا بأس،بخير،مارست الضياع عمدا في شوارع المدينة” 35(الرواية.ص: 44).
– سؤال قيس مستغربا من “مطلق” موقفه من “ميلاد”،ضحية الثورة بقوله: “ألا تذكر “ميلاد”  الذي قتلتموه في معتقل الصحراء؟” 36(الرواية ص: 66).
هذا وقد فاقت إيقاعات الاستفهام والتعجب مجتمعة، ما مجموعه 541 إيقاعا، تراوحت دلالتها بين التوبيخ والتعجب كما في قول السارد : حاولت جوليا استدراك ضعفها أمامه فقالت : متى وكيف أصبحنا أصدقاء، أيها الغريب ؟!37 ( الرواية.ص: 47)،
فلا غرو إذن، أن يجتمع في نص آرابيا،  عدد لا حصر له من إيقاعات علامات الترقيم، بما فيها النقط والفواصل.. و علامات التعجب والاستفهام، حيث تبدو الأولى شبيهة بضربات صنج صامتة، في الوقت الذي تبدو فيه الثانية عبارة عن نبضات موسيقية، تلزم القارئ التفاعل مع نبراتها،    انسجاما مع طبيعة الحياة وذكرياتها، ومواقف الشخوص وردودها. يقول قيس عن فداحة الواقع وعمق المأساة، وما يلوح في الأفق من آفاق قاتمة  :” لسنا محظوظين أبدا، لأننا ولدنا في هذا الزمن الرديء” 38(الرواية ص: 266)
-5- إيقاعات النفي :
لن تكتمل إيقاعات النفي إلا بوجود نقيضتها الإثباتية، تماشيا مع البنية الدلالية التي بنيت عليها الرواية. ونقصد بها بنية التضاد التي تشمل مختلف الصيغ  الخبرية، المخطرة أو المؤكدة على ضرورة التشبت بالهوية الوطنية والانتماء الجغرافي.
وبوجود إيقاعات النفي، تكون سمفونية الرواية قد اكملت دائرتها الرافضة لكل ما يجري في الواقع،  داعية إلى الوعي بجدوى رفضه، تثويره وتجديده، عبر الأدوات النافية المتاحة : لم، ولا، ولن، وما، وليس، والتي يصل تعدادها 357 علامة، توزعت بين نفي صريح (نفي الماضي ونفي المضارع) من مثل قول السارد : “الأوضاع لا تشي بولوجنا عالم الحرية كما نأمل” 39( ص: 135)، وقوله : “لم يتوقف وصول المجهول الذي انتظره قيس عن اكتشافه لجوليا، فقد صارت الأنباء تتوارد عن اضطرابات شعبية تهز بعض مناطق آرابيا” 40 (ص: 32)، ونفي ضمني بلاغي بأنواعه المتعددة. وأهم ما يمثل ذلك :
– أسلوب التعجب، كما في قول قيس لجوليا “لا النظام العميق سقط ولا الثورة الغريبة نجحت 41 (الروايةص: 101)

  • أسلوب الاستفهام والتعجب: “أأنت صديق يا  أحمد؟!”42 الرواية ص: 138).
  • أسلوب الأسى و الحسرة. يقول قيس في شأنه:”آه يا علي، لو رأيت أنت، ما رأيته أنا في المعتقلات، لو أنك فعلت، لما كنت هنا معهم” الرواية ص: 200)
    – أسلوب التحذير.تقول جوليا في حق قيس:”فاعلم ألا لقاء من بعد فراق!”43 (الرواية ص: 128)،
  • أسلوب التمني كما يبدو في رسالة جوليا الموجهة لقيس: “ليتني أعرفك يا قيس، ليتني أعرف من أنت وماذا تريد !” 44
  • أسلوب الدعاء “ويحك يا فقيه النبيذ. تتغزل بي ونسيتني” 45(الرواية ص: 243)،
  • أسلوب السخرية (.سأجلس لأحدث البحر عنك، لأراك قادما مع كل موجة. فكن طيفي وملاكي (الروايةص: 257).
  •  أسلوب  النهي كما في صوت غرام حين” صرخت: “لا ! لا ترحل ! لا تغمض عنيك ! فأنا أحبك أكثر، قيس، لا تذهب !”46 ( الرواية ص: 281)

وتجدر الإشارة، فضلا عن هذه الإيقاعات الأسلوبية، أن ثمة إيقاعات أخرى مكملة، هي عبارة عن أصوات متموجة، اتخذت الرواية بموجبعا طابعا حوارية، سرعان ما سينتقل الخطاب فيها من تقنية الحوار إلى المونولوج،بعد أن تعذر التواصل، واستحال بين الشخوص، بسبب اختلاف في المواقف، وتباين في وجهات النظر، وتحديدا ما تعلق  بإيقاع الغزل،حيث تدور رحى محنة العشق بين عشاق أربع: قيس، جوليا، غرام، خالد. إذ بمجرد توقف الحوار، وغياب لغة التواصل، اضطرت الأطراف الأربعة المذكورة إلى الإستيعاض عنه بالمونولوج، ، فتلوذ إلى مخاطبة الذات، مستكينة إلى صوت العالم الداخلي، سواء حين “شعر قيس أن حوارهما لن ينهي” 47 (الروايةص: 150). أو حين عاد التباعد العاطفي بين غرام وقيس إلى عامل مكر قيس وخداعه، كما تقول غرام :” أنت ماكر في لغة الغزل، بل محتال كبير” 48 (الروايةص: 235)، أو بعد أن استعصى قيس على جوليا قائلة: “أي غبي أنت ! مالي وصراع الغرب مع الشرق ؟ أنا أحبك وكفى ! نحن رجل وامرأة وحب ! “49 (الروايةص: 152).
بعد هذه المفارقات الإيقاعية الداخلية، ينتظر جدا ألا يوتي الغزل انفعاله وأكله بين المحبين، حسب ما جاء في ردود المحبين التالية:

  • ارحل إن شئت لكن لن يرافقك غفراني !! تبا لك، كم أكرهك بقدر ما أحببتك !”50 (الروايةص : 155
  • “إن مقاومة أي احتلال واجبة !! لكن ماذا تراني فاعل لو احتل قلبي حبها( الروايةص : 208)
  • “سأختصر لك، الحب هو الحب، اقتنصنا دون أن ندري” 51(الرواية ص: 209).

خاتمة :
في ظل كثير من مؤشرات الإحباط وإيقاعات الاستفهامات المستنكرة والتعجبات الساخرة، وتأزم الاحداث المتعاقبة، وإخفاقات الشخوص في التواصل، واسمرار الهجرة غير المشروعة….لم نكن لنرتقب الخلاص القريب لآرابيا، باستثناء بعض المؤشرات التي تدعو إلى التفاؤل، كرمزية الأسماء بما تحمله من دلالات إيجابية، ممثلة في أحمد وميلاد وعائشة(غرام) وخالد، وبعض قناعات الانفراج التي طالما عبر عنها قيس، رغم صعوبة الموقف: “لم أكن أتخيل أن الوضع سيكون أروع (مروع) أكثر اجتياحا هكذا” 52 (لرواية:ص235)، وتفاؤله بمصير البلاد في مواقف شتى، وتحديدا  ما رسمه قيس في نهاية الرواية من آمال عريضة، ودعوة الأجيال اللاحقة لمواصلة الثورة حتى النصر:
“من الموت تولد الحياة ومن القهر تولد الثورة” 53 (الروايةص :280).
“قد خضت معاركي، لم أنتصر لكن ربما أكون قد مهدت طريق النصر. آن لأجيال من بعدنا أن تكمل المسير حتى الانتصار” 54( الروايةص :281)

بهذه التمظهرات الإيقاعية الباعثة على التشاؤل،تكون آرابيا، بعد طول انشطار، قد رسمت طريقها إلى الخلاص، بعد أن أماط الكاتب اللثام عن لعنة تاريخية حقت بها، منتقدا غياب الحس النقدي لدى ساكنيها، ومنبها لآفة الاختلاف وخطورة التقسيم، فاتحا أمامها آفاقا واعدة على المستوى المنظور.
بهذا التأريخ الروائي، يكون الكاتب زياد حميدان، قد تمكن من سبر أغوار  مرحلة عصيبة من تاريخ الجزيرة العربية، ومخلفاتها على القضية الفلسطيية على غرار ما ذهب إلى ذلك الأدباء والمفكرون الذين اعتمدوا الذاكرة في نقد الواقع وإعادة بنائه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى