قراءة تصديرية في موسوعة ،،أم كلثوم وشعراؤها،،للشاعر شير عياد
د. بسيم عبد العظيم عبد القادر | شاعر وناقد أكاديمي
رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر
الحمد لله الذي جعل من البيان سحرا ومن الشعر حكمة، وخص به قوما فامتازوا على بقية البشر فكانوا أئمة في أقوامهم ورادة وقادة في أممهم في حياتهم أو بعد مماتهم.
والصلاة والسلام على سيد البشر الذي نزلت عليه سورة الشعراء، وعرف لهم قدرهم وقدمهم على غيرهم، فنصب منبرا في مسجده لحسان بن ثابت ينشد عليه شعره في الدفاع عن الإسلام، ويرد على شعراء المشركين، ويذب عن عرض الرسول الكريم، كما خلع على كعب بن زهير بردته، واستزاد الخنساء من شعرها، قائلا: هيه يا خناس.
وبعد
فهذه موسوعة علمية أدبية وفنية نكاد نزعم أنها فريدة في بابها، غير مسبوقة في موضوعها، وضعها شاعر وناقد وفنان هو المرحوم الشاعر بشير عياد، وخص بها كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي أم كلثوم ـ يرحمها الله ـ التي أعادت للشعر العربي رونقه، فجعلته يسيل على ألسنة الخواص والعوام سهلا عذبا رخاء، بما منحها الله من صوت عذب قوي قادر على تجسيد المعاني الشعرية، وذوق فني راق جعلها تحسن الاختيار، بل تتدخل في اختيار الأبيات المغناة من القصيدة للشعراء قدامى ومحدثين، على علو كعب هؤلاء الشعراء واعتزازهم بإبداعهم، فأسهمت في الارتقاء بالذوق العربي في الغناء وانتشلته من وهدة العامية الركيكة إلى الفصحى الأنيقة الرقيقة السلسة المفعمة بالمعاني الجميلة في شتى الفنون والأغراض، وبخاصة شعر الغزل والوطنية والقومية العربية والإسلامية، والمعاني والمشاعر الدينية.
وتمتاز أم كلثوم بأنها لم تقتصر في غنائها على شعراء مصر وحدهم ـ وفيهم الغناء في الفصحى والعامية ـ ولكنها غنت للشعراء العرب بل تجاوزتهم إلى الشعراء المسلمين من غير العرب، فنراها تغني قديما لأبي فراس الحمداني، وحديثا للفيلسوف الهندي الباكستاني المسلم محمد إقبال، والشاعر السعودي الأمير عبد الله الفيصل والشاعر السوداني الهادي آدم والشاعر السوري نزار قباني، ناهيك عن الشعراء المصريين الكبار أمثال أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم وشاعر الرومانسية إبراهيم ناجي، وشاعر الكوخ محمود حسن إسماعيل، وفارس الأغنية المصرية مرسي جميل عزيز، والشاعر الملتزم عبد الفتاح مصطفى وغيرهم من الشعراء الذين أعطوا أم كلثوم وأعطتهم أم كلثوم، فمنحوها ذوب مشاعرهم وإحساسهم، ومنحتهم الشهرة والخلود بما أذاعته من أغانيهم وما أضفته عليها بصوتها القوي النادر، فارتقت بأذواق الجماهير على مستوى العالم العربي والإسلامي، بل تجاوزت ذلك إلى الغناء في الدول الأوربية.
وهنا يأتي شاعرنا وناقدنا بشير عياد ليضع لنا هذه الموسوعة القيمة بعد أربعة عقود من وفاة أم كلثوم، ليعيد للذوق العربي شيئا مما افتقده على أيدي مدعي الشعر ممن لا يستحي المرء أن يصفعهم، ومدعي الغناء ممن هبطوا بالذوق إلى منحدر عميق وهوة سحيقة، تحتاج إلى جهود حثيثة لتجاوزها، ولتجسير الهوة بين الذوق الراقي والإسفاف والانحطاط، ولن نضرب أمثلة فالأمر أوضح من أن نمثل له، يلمسه السامعون ويعاني منه أصحاب الذوق الرفيع إذا أوقعهم سوء حظهم في مواصلة عامة في سائق جاهل منحط الذوق، يفرض عليهم غثاء تقشعر من الأبدان، وإسفافا في الكلمات والمعاني يندى له جبين العقلاء وتحمر منه خدود العذارى.
ومنهج الأستاذ بشير عياد في هذه الموسوعة يجعلها جديرة بالذيوع والانتشار لأنها تلبي حاجات صنوف شتى من القراء، فهي تشبع نهمة محبي الشعر العربي، وتروي غلة محبي الشعر العامي الراقي، وتثري ذوق الموسيقي الشادي، وترتقي بذوق الجمهور بصفة عامة.
ونرى أن هذه الموسوعة القيمة جديرة بالنشر والتوزيع والتدريس في كليات الآداب والعلوم الإنسانية، وأكاديميات الفنون بمعاهدها المختلفة وبخاصة معهد النقد الفني ومعهد الموسيقى العربية، والمتاحف الفنية وبخاصة متحف أم كلثوم، وأن تقتنيها مكتبات المدارس والجامعات العربية، وأن تهدى إلى السفارات العربية والإسلامية في مصر، وتودع في مكتبات سفارات مصر في دول العالم، لما فيها من فوائد جمة تعمل على النهوض باللغة العربية والارتقاء بها بعيدا عن تعقيدات اللغويين وجدل النحويين، وتفلسف النقاد الأكاديميين.
يأتي بشير عياد بالشاعر الكلثومي، فيعرف به تعريفا وافيا يلقي الضوء على حياته وتعليمه وثقافته وبيئته، ثم يعرج على شعره ودواوينه، ثم يدلف إلى لقائه بكوكب الشرق كيف كان، وعن أي طريق تأتى، فربما كان لقاء مرتبا أو جاء عفو الخاطر ومحض الصدفة، ولقاؤها بالأمير عبد الله الفيصل مثال على ذلك، ثم يأتي إلى الأغنية فيورد القصيدة كاملة، ثم يورد الأبيات التي وقع عليها الاختيار للغناء وكيفية الاختيار وتدخل أم كلثوم في التغيير والتعديل في المعاني والألفاظ، مبينا ما لهذا التعديل وما عليه، ملاحظا الدقائق، فقد تجمع الأغنية بين مختارات من قصيدتين كما عند إقبال في قصيدتيه: “شكوى” و”جواب شكوى” اللتين اختارت منهما أبيات أغنيتها الرائعة “حديث الروح”،، وكما في أغنية الأطلال للشاعر إبراهيم ناجي إذ نجد سبعة أبيات من قصيدته “الوداع”، وأكبر عملية مزج في تاريخ أم كلثوم الغنائي هي أغنية “من أجل عينيك” التي اختارتها من خمس قصائد من ديوان الأمير عبد الله الفيصل “حديث قلب”.
ولا ينسى بشير عياد دور الموسيقى في الغناء الكلثومي، فيعرف بملحني أغانيها، وكيفية تعاملها معهم وحبهم لها وبخاصة رياض السنباطي، وعشق بعض الشعراء لها وخصوصا شاعر الشباب أحمد رامي، ويبين سمات الموسيقى عند كل ملحن والأدوات والآلات الموسيقية التي يوظفها لخدمة الأداء الفني، وما طرأ على ذلك من إضافات مسايرة للحداثة الفنية في غير إسراف يخدش الأذن الموسيقية، أويجرح الذوق العربي في الموسيقى والغناء، كما كان يذكر تاريخ إذاعة الأغنية لأول مرة.
أما صوت أم كلثوم وأداؤها، فقد أولاه بشير عياد عناية فائقة، فحلل وعلل، وأبدع في تحليله وتعليله، ثم إنه كان يلتفت إلى ما يطرأ على الأداء الكلثومي للأغنية من تطور بالحذف أو الإضافة بحسب الظروف وبخاصة في الأغاني الوطنية وأغاني المناسبات، وكيف أنها هجرت بعض الأغاني، معللا ومدللا على كلامه بالأمثلة، مما يجده قارئ هذه الموسوعة القيمة مبثوثا في تضاعيفها.
ولولا أن كل مردد ثقيل، وكل مكرر مملول، لضربنا أمثلة توضح ما قلناه، ولكنا نكتفي في هذه المقدمة بالإشارة، ثقة في ذوق القارئ وفطنته، وحرصا على استمتاعه بالقراءة وتشويقا له إلى الولوج إلى ساحة الموسوعة والسباحة في بحرها لاستخراج لآلئها الجميلة بنفسه، حتى يشعر بالمتعة الفنية التي شعرنا بها في أثناء مراجعة هذه الموسوعة أثناء طباعتها.
وينبغي أن ننبه إلى أهمية بشير عياد شاعرا وناقدا ومؤلفا، ووجوب التفات النقاد إليه بالبحث والدرس، وفاء لحق الجادين من أعلام أمتنا ومصرنا الحبيبة، فلئن فاته التكريم حيا ـ على عادتنا في مصر الحبيبة ـ فلا ينبغي أن نضيعه بعد وفاته، فنحن في وقت تتعرض فيه الأمة لهجمة شرشة تبتغي تذويبها وتمييع هويتها وتضييع تراثها، بل ومحو تاريخها إن استطاع أعداؤها ذلك، ومن أسف أن من أبناء هذه الأمة من يساعدون أعداءها في أداء مهمتهم، إما عن جهل ـ إن أحسنا النية ـ وإما عن سوء قصد، بدعوى الحداثة ومسايرة العصر والانخراط في العولمة، واعتناق الحداثة، بل وما بعد الحداثة، ناسين أو متناسين أن لهذه الأمة خصوصيتها التي تمتاز بها عن غيرها من الأمم، وأن لهذه الحضارة سماتها التي تميزها عن غيرها من الحضارات، لأنها تستند على الوحي الإلهي، عليه قامت ومنه انطلقت تغزو العالم بآفاقها الواسعة، وشموليتها الرحبة، ورحمتها التي عز نظيرها، واستيعابها لغيرها من الحضارات وهضمها والبناء عليها، ونقلها للعالم في القرون الوسطى حيث قامت عليها الحضارة الغربية التي اهتمت بالجوانب المادية وأهملت الجوانب الروحية، فقامت على ساق واحدة، مما يعرضها الآن بل يرشحها بقوة للانقراض والزوال، وتلك سنة الله في خلقه، ونسي هؤلاء المتعولمون من الحداثيين وما بعدهم أن أول التجديد السليم أن نقتل القديم بحثا لنطلق منه ونبني عليه.
وفي ختام هذا التصدير لا يسعنا إلا أن نرفع أكف الضراعة إلى الله أن يتغمد شاعرنا وناقدنا المبدع الملهم بشير عياد بواسع رحمته وأن يبارك في زوجه وذريته ويجعلهم خير خلف لخير سلف، وأن يجعل هذا العمل القيم في ميزان حسناته، وينفع به قراءه ومحبيه، وأن يجزيه عن أم كلثوم وعن شعرائها وملحنيها وعشاق غنائها خير الجزاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.