قراءة انطباعية في قصيدة “ما عدت أعرف ذاتي” للشاعرة اللبنانية فريدة توفيق الجوهري.
محمد الجهالين | الأردن
.
أولا القصيدة :
هذي أنا والماضياتُ حياتي
هذي أنا لا تشهقي مرآتي
هذي أنا هل تذكرينَ ملامحي؟
خبأتُ فيكِ فهارسَ السنواتِ
هذي العيونُ عيون أعوامٍ مضتْ
حيثُ التقينا في خضمِّ الذاتِ
فلكم رقصتِ على جنون مشاعري
ولكم قضينا أجملَ الساعاتِ
ومعاً بكينا بعد كلِّ عواصفي
وسخرتِ من حزني ومن هفواتي
أنتِ الأنا منذُ اكتمالِ أنوثتي
يا سرّيَ المحفور بالبصماتِ
يا كلّ ذاكرتي وكلّ مراحلِ ال
عمر الذي يحيا على نبضاتي
ها قد أتيتُكِ أستعيدُ مرافئي
يامن بصدركِ قد وشمتُ سماتي
في وجهِكِ. المصقولِ كل حكايتي
خبأتها من سطوةِ النظراتِ
جودي بما تُحصينَ من زمنٍ مضى
لأقلّبَ الأيامَ في صفحاتي
يا أنت يا كلّ المحطات التي
فارقتها فتفرّعت كنواةِ
إني لديك قد تركتُ خريطتي
في كلّ زاويةٍ هنا مرساتي
رُدي ليَ صوري القديمة َ كلّها
ودعي بصدرِكِ حُفنةَ الٱهاتِ
ردي فساتيني التي عانقتُها
واساوري ومشاعلَ الكلماتِ
ردي الحكاياتِ التي أيقظتِها
في لحظةٍ من غفلةِ الأمواتِ
هذي أنا أعنو لديكِ بلهفةٍ
لكنني ما عدتُ أعرفُ ذاتي.
ثانيا – القراءة
خطابٌ من ذكريات الشباب، لا المُخاطِبَةُ ذابلةُ الإِهاب، ولا المخاطَبَةُ يانعة الإطار، تخاطب الشاعرة مرآة عُمْرِها؛ لتستحضر قديما ارتسم في الزجاج ظلالا، عنفوانا وجمالا.
تسجل فريدة الجوهري اسمها الشعري باقتدار في قائمة الشعراء الذين حاوروا المرآة، وهي قائمة شحيحة الأسماء.قال ابن زهر الحفيد الأندلسي:
إِني نَظرتُ إِلى المِرآةِ إِذْ جُلِيَتْ
فَأَنْكَرَتْ مُقلَتايَ كُلَّ ما رَأَتا
رَأَيتُ فيها شُيَيْخاً لَسْتُ أَعرِفُهُ
وَكُنتُ أَعرِفُ فيها قَبْلَ ذاكَ فَتى
فَقُلتُ: أَينَ الَّذي مَثواهُ كانَ هُنا؟
مَتى تَرَحَّلَ عَنْ هذا المَكانِ مَتى
فَاسْتَجْهَلَتني وَقالَتْ لي وَما نَطَقَتْ
: قَدْ كانَ ذاكَ، وَهذا بَعْدَ ذاكَ أَتى
وقال زكي مبارك:
مليحٌ لهُ المرآةُ أختٌ حبيبةٌ
يقولُ لها ما يشتهي وتقولُ
أساريرُه فيها أساريرُ شادنٍ
لهُ في الظباءِ النافراتِ أصولُ
رأى وجهَهُ فيها جميلاً ورائعًا
فأمسى وفي الأحشاءِ منه غليلُ
فأصبحت المرآةُ شهوةَ روحِهِ
يميلُ عليها حانيًا فتميلُ
تقولُ لهُ المرآةُ إنَّكَ ساحرٌ
وإنَّكَ بالروحِ الجميلِ جميلُ
عيونٌ كما شاءَ الفُتونُ فواتكٌ
وخدٌّ كما رامَ الغرامُ أسيلُ
ولَمْ تقلِ المرآةُ ما طعمُ ريقهِ
إذا طابَ عندَ الصبحِ وَهْوَ شمولُ
وقال نزار قباني: ما لي أُحَدِّقُ في المرآة أسألُها … بأيِّ ثوبٍ من الأثوابِ أَلْقاهُ
أما مرايا بلادنا فتتمثل بالمثل الشعبي: لا تخرج المِغْرَفَةُ إلا الذي في القدر.
ماذا أخرجت مغرفة شاعرتنا؟
الملامح، العيون، مشاعر مجنونة، ساعات جميلة، بكاء عواصف، بصمات أسرار، اكتمال أنوثة،أساور، فساتين… ابتعدت الشاعرة عن نعت صور مرآتها فلم تحدثنا عن قَوامٍ آسر، ولا عن وجه ساحر ،، تركتنا نتساءل عن موصوف لم يوصف، فصرنا نفتش عن إجابة في سياق القصيدة، فوجدنا الوصف مخبوءًا في قولها للمرآة: لا تشهقي، هذا شهيق المفاجأة فالجمال صار ضئيلا، والإيناس أصبح تجفيلا.
قالت سعاد الصباح :
“أريدُ أنْ أسترْجِعَ العُمْرَ الذي
خَبّأتُهُ في داخِلِ المرايا”
تشابه ما أرادته الشاعرتان “الصباح والجوهري”؛ فالمُراد من المرآة استعادة المشاهد التي عرضتها المرآة في الماضي، مشاهد الصبا الطامح والرضا الصادح.
هذي أنا والماضياتُ حياتي
هذي أنا لا تشهقي مرآتي
مطلع القصيدة ليس محتاجا إلى صدره حتى لو حذف الصدر؛ ذلك أن الصدر قسمان:
الأول: “هذي أنا”، وهو قسم تكرر في العجز، فلا يضير المطلعَ حذفُه، رغم أهمية وظيفة التكرار بلاغيا.
الثاني:”الماضيات حياتي”، وهو قسم حذف فيه الموصوف وهو السنين، فالتقدير: السنونَ الماضياتُ حياتي. ولولا هذا التقدير لكان على الشاعرة أن تقول:والماضية حياتي؛ ليتطابق المبتدأ والخبر إفرادا، فضلا عن أنه إخبار لا يأتي بجديد، إخبار يعرفنا بمعروف إلا إذا حصرت الشاعرة حياتها في الماضي فلا حاضر يُعاش ولا مستقبل يُنتظر.
زاد العجز جمالا بالاستعارة المكنية “لا تشهقي”، صارت المرآة امرأة تشهق من دهشة المفاجأة.
أهذه التي جلست أمامي قبل سنين؟
ما هذا الشحوب الكئيب
ما هذه الخيبة الضائعة؟
أين تفاؤل الأعماق؟
أين طمأنينة الأحداق؟
هذي أنا هل تذكرينَ ملامحي؟
خبأتُ فيكِ فهارسَ السنواتِ
وتتكر جملة “هذي أنا” تأكيدًا على خارج تغير وداخل تسمر ويحضر هنا قول المتنبي “كذا أنا” في بيته الشهير
كـذا أنا يـا دُنيـا إذا شِـئْتِ فـاذْهبي
ويـا نفْسُ زيـدي فـي كَرائِهِهـا قُدْمـا
مع فارق الإخبار فالشاعرة تخبرنا بأنها لم تزل هي، وإن اختلف المظهر واضطرب الشكل، والمتنبي يخبرنا بأنه سيبقى هو، مهما راوَدَتْهُ اللذائذ وخادَنَتْهُ الكرائه.
” فهارس السنوات” هذا التركيب الإضافي جديد التوظيف، فلقد عهدنا فهرس السنة مُبَوِّبًا ما فيها من أحداث، أما توظيف الشاعرة فقد أخفى في ذاكرة المرآة فهرس كل سنة من عمرها عناوينَ تسرد قصة من سعادة وحكاية من فرح.
هذي العيونُ عيون أعوامٍ مضتْ
حيثُ التقينا في خضمِّ الذاتِ
يقولون: إن العيون لا تتغير كما يتغير باقي أعضاء الإنسان. فما الذي رأته المرآة متغيرا في عيون الشاعرة؟ لتؤكد الشاعرة أن عيون الماضي هي عيون الحاضر.
أيتها المرآة لم تجئك الشاعرة بأحداق الزينة وإنما بأحداقها الحزينة.
علاقة المرآة بالمرآة أقدم زمنا من مفردة الشاعرة” التقينا” ولعل مفردة “احتدمنا” هي الأنسب لمفردة ” خضم” لو كان العجز: حيث احتدمنا في خضم الذاتِ
فلكم رقصتِ على جنون مشاعري
ولكم قضينا أجملَ الساعاتِ
يتضاءل ضوء الشعر في عجز البيت؛لسرديته النثرية، فضلا عن استهلاك الشعر اسم التفضيل ” أجمل” استهلاكا أثملَ التفضيل إنهاكا
ومعاً بكينا بعد كلِّ عواصفي
وسخرتِ من حزني ومن هفواتي
تستمر الشاعرة في استحضار ما اختزنته مرآتها من رقص مجنون، وبكاء عاصف ،وحزن مضحك، وكأن المرآة إحدى صديقاتها بل صديقتها الوحيدة.
تتاولى الاستعارات المكنية تشخيصا يجعل غير العاقل عاقلا، مرآة تبكي مع الرائي ساخرة من هفوات المرئي.
أنتِ الأنا منذُ اكتمالِ أنوثتي
يا سرّيَ المحفور بالبصماتِ
أنت الأنا أي أنت أنا، هذا الاتحاد بين المرآة والشاعرة هو انعكاس الجسد والروح في المرآة متسربلا باحتفالات الأنا باكتمال بدور الأنوثة طلوعا وسطوعا.
تعريف الضمير هنا هل جاء اضطرارا عروضيا هروبا من زحاف مُتْفَعِلُنْ لو قالت الشاعرة ” أنت أنا “؟
أم جاء توظيفا لمصطلح “الأنا ” أحد مكونات شخصيتنا النفسية (الهو ، الأنا، الأنا الأعلى)؟
“يا سرِّيَ المحفور بالبصمات” إن كانت الباء الجارة للاستعانة؛ فالبصمة آلة الفعل حفر، أي هي التي حفرتْ؛ فيُؤْخَذُ على هذا المعنى أنَّ البصمة لا تجيد الحفر وإنما تجيد الطَّبْعَ .
وإذا كانت الباء ظرفية بمعنى في؛ فالبصمة محفور فيها أي هي مكان وقوع الفعل، أيضا يؤخذ على هذا المعنى أن الحفر في البصمة قد لا يكون مقنعا؛ ذلك أن البصمة لا تصمد أمام الحفر.
إذن إشكال المعنى يكمن في تعثر اختيار مفردة “المحفور”. ولو كان الشطر هكذا لزال الإشكال: يا سرِّيَ الموصودَ بالبصمات.
فالبصمة توصد هذا السر أو تفتحه؛ وكأن كلَّ ما سجلته المرآة من مشاهد الأنوثة لم تشاهده إلا الشاعرة، مثلما بصمة الشاعرة لا يشاركها فيها أحد فبصمتها تفتح أو توصد سمسم ذاكرة المرآة.
يا كلّ ذاكرتي وكلّ مراحلِ ال
عمر الذي يحيا على نبضاتي
كلنا نحيا بالنبض فما الذي أضافه هذا البيت إلى فهم المتلقي؟ سوى أن الشاعرة تنادي ماضيها المكنون في المرآة مرحلة مرحلة.
مراحل العمر جزء من الذاكرة، وقد يكفي أن ينتهي البيت عند مفردة ذاكرتي، لكن إصرار الشاعرة على التفصيل قد يشفع لتخصيص مراحل العمر من عموم الذاكرة.
هذا البيت هو الوحيد الذي جاء موصولا عروضيا فأل التعريف في مفردة” العمر” تكمل تفعيلة الصدر الثالثة، وتبدأ تفعيلة العجز الأولى بالمعرف.
والشعراء لا يصلون أبياتهم إلا اضطرارا، لذلك لا نجد إلا القليل من الأبيات الموصولة عند كبار الشعراء. واشتراك صدر البيت الشعري وعجزه في كلمة ليس عيبا شعريا وإن كان ذلك الاشتراك على حساب استقلال الإيقاع.
ها قد أتيتُكِ أستعيدُ مرافئي
يامن بصدركِ قد وشمتُ سماتي
الصدر في واد والعجز في آخر، لا رابط يربط استعادة المرافئ بالسمات الموشومة في الصدر. على أن البيت ضارب الإيقاع، في تجاوب إيقاع “قدْ” المكررة وإيقاع مقطع “صَدْ” في مفردة ” بصدرك”، فضلا عن تجاوب إيقاع الكاف المكسورة في “أتيتكِ” وفي “بصدركِ” وتجاوب إيقاع تاء الفاعل في ” أتيتُ ” وفي ” وشمت”.
وقد توقعت عند قراءتي للصدر أول مرة انتهاء العجز بكلمة “مرساتي”، لتناسب المرافئ ، لكنَّ الشاعرة اكتفت بطلب استعادة مرافئها دون تذكيرنا بسبب تيه مراسيها.
في وجهِكِ المصقولِ كل حكايتي … خبأتها من سطوةِ النظراتِ
لمن هذه النظرات ؟ لم تختبئ من سطوتها حكاية الشاعرة؟
غموض قد يحجب عن المتلقي مُراد الشاعرة، غموض قد يدفع الشاعرة إلى حواف الاستجلاب اللفظي وزنا وقافية.
جودي بما تُحصينَ من زمنٍ مضى
لأقلّبَ الأيامَ في صفحاتي
كأنَّ إحصاء الماضي بمراحله ومشاهده قد صار من أملاك المرآة، فلها ألا تجود بذلك الماضي وليس عليها أن تجود.
” لأقلّبَ الأيامَ في صفحاتي” مبنى قشيب ومعنى غريب، فالتقليب يكون للصفحات وليس للأيام فالعبارة الذائعة على الألسن “تقليب صفحات الأيام”، وهذا مُراد الشاعرة تقليب أحداث وشخوص الأيام التي سطرتها صفحات الذاكرة.
يا أنت يا كلّ المحطات التي
فارقتها فتفرّعت كنواةِ
تأخذنا مفردة التفرع إلى التفرع النباتي من نواة البذرة التي تزرع، فتصير سيقانا وأغصانا، قد يرهق هذا المعنى ذهن المتلقي التقاطا واتِّباعا،فيحار في تأويل الصورة ارتباطا واقتناعا.
إني لديك قد تركتُ خريطتي
في كلّ زاويةٍ هنا مرساتي
هنا زحاف تحاماه الشعراء في الكامل وذلك في “كِ قدْ تَرَكْ”، وهو زحاف الوقص فتصبح “مُتَفاعِلُنْ” بعد حذف ثانيها المتحرك ” مُفاعِلُنْ”.
إن لم تقصد الشاعرة هذا الزحاف فلعلها أشبعت كسرة “لديكِ” ياء هكذا : لديكي، وهذا أيضا إشباع اجتنبه الشعراء. أبهجني أن توقعي السابق بأن تستضيف القصيدة مفردة ” مرساتي” قد حدث، ولو في غير مكان التوقع.
ولكن ما العلاقة بين الزاوية والمرساة؟ بين الخريطة والزاوية؟
رُدي ليَ صوري القديمة َ كلّها
ودعي بصدرِكِ حُفنةَ الٱهاتِ
ربما سهت الشاعرة في وزن صدر البيت فجاء على هذا الرسم مكسور العروض ولعل أصل الصدر: ردي لِيَ الصور القديمة كلها
أكثرت الشاعرة استخدام مفردة ” كل”: كل عواصفي، كل ذاكرتي، كل مراحل العمر، كل حكايتي، كل المحطات، كل زاوية، صوري القديمة كلها.
لعله إكثار اقتضته التفاعيل أكثر مما اقتضاه التخييل.
ردي فساتيني التي عانقتُها
واساوري ومشاعلَ الكلماتِ
يتناص الصدر مع صدر بيت نزار قباني في قصيدة أيظن، تناصّ بناء ومعنى ارتداء: حتى فساتيني التي أهملتها
تتناسب الأساور والفساتين أما “مشاعل الكلمات” فلا تناسب إسوارة ولا فستانا، إلا إذا كانت همسا في أذن من ترتدي الفستان وتلبس الإسوارة، فما الذي يشعل هذا الهمس؟
ردي الحكاياتِ التي أيقظتِها
في لحظةٍ من غفلةِ الأمواتِ
” من غفلة الأموات” شبه جملة طلسمتْ البيت فاستغلق مراده.
هذي أنا أعنو لديكِ بلهفةٍ
لكنني ما عدتُ أعرفُ ذاتي.
كيف تصاحب اللهفة العنو؟ وهو الأسر والخضوع
لم تعرف المرآة صاحبة الذات، ولم تعرف الذات صاحبتها. هل أسهب النسيان ؟ أم استطرد الضياع. قرأت قصيدة قوية البناء جيدة التصوير اضطرمت عاطفة جِنان،ولم تنتظم عِقْدَ بيان.
قرأت قصيدة تارة تبتعد صدورها عن أعجازها اتساقا وانسجاما، وتارة تقترب انسجاما واتساقا. قرأت قصيدة لشاعرة قديرة تعد بالجميل شعرا أنيقا وبوحا رقيقا.