اشتباك عاطفي

صبحة بغورة | الجزائر

     جلس يرتشف قهوته كعادته كل مساء في شرفته التي تطل على الشارع التجاريالكبير بالمدينة،كان أكثر ما يسعده رؤية الطائرات تمر فوقه بين الحين والآخر على ارتفاع منخفض وهي تتهيأ للهبوط بالمطار القريب من منزله، يتأمل الأضواء الساطعة تنبعث منها ويتمنى لو كان ضمن ركابها. في مثل هذا الوقت تبدأ الحركة تدب دفعة واحدة على جانبي الطريق وتتحلى واجهات المحلات، لم يكن يهمه كثيرا أن يراقب فنجانه وهو يرفعه في كل مرة إلى فمه، فعيناه لا تغادر المارة ولكن ليس كلهم، النساء منهم يجذبونه أكثروهذا في نظره من مزايا السكن بالأدوار السفلى التي تتيح الرؤية إلى التفاصيل بشكل أفضل تمنى لو أنه في وضع مالي يسمح له باستغلال موقعه هذا لتحقيق الاختيار الأصوب  فهو لا يزال ينتظر الرد على طلبات العمل التي قدمها إلى عشرات الجهات  بعدما أنهى دراسته الجامعية وأدى الخدمة العسكرية،أصبح لا يطيق صبرا على البقاء عاطلا عن العملوالانتظار أكثر من ما مضى بدون جدوى، وجد في شرفته مكانا مؤنسايخفف عنه الملل وحيث لا يشاركه وحدته وتأملاته فيه أحد،تذكر كم كان اجتماعيا وكثير الأصدقاء وكيف أن مشاغل الدنيا ألهته عنهم فانصرفوا عنه،يعلم أنه لم يدخل دائرة المكابدة والمعاناة اليومية لأنه ليس بعد في وضع من يتحمل مسؤولية أعباء أسرة كباقي أقرانه، كما أنه ليس كمثل من وقع منهم سريعا فيشرالتيه العاطفي الذي أدى بهم إلى تناسل الأخطاء، هز رأسه موافقا ما تلقاه من وحي نفسه الذي وجد فيه تحذيرا أكثر منه تذكيرا لماضي أو تفسيرا لواقع،وبينما هو كذلك مرت أمام عينيه تلك الفتاة التي كان قداعتاد رؤيتها من قبل في مثل هذا الوقت عائدة من العمل،كانت قد شغلته بأناقتها ورشاقتها وحسنها وبخطواتها الواثقة وهاهي تعود إلى الظهور بعد غياب دام أياما أصيب خلالها بالأنيميا العاطفية، وجدها تماما كما عهدها فوقف منتصبا كمن يريد أن يسترعي نظرها وفعلا لفت انتباهها ولكنه رأى في عينيها معاني اختلطت عليه في نظرتها إليه، أهو تعجب، أم إعجاب؟ مرت سريعا وتركته حائرا، لم يجد تفسيرا لحيرته هذه، أهو الشوق إلى من تعود التمتع برؤيتها؟ أم هي مجرد الفرحة بنهاية حرمانه من تسلية ألفها،كل ما يعرفه أنه أثارت هذه المرة شيئا في نفسه شغل عقله وحرك قلبه.

   في اليوم التالي قرر أن لا يبقى بالشرفة وقت مرورها بل يلتقيها وجها لوجه في الشارع ، مرت في وقتها المعتاد رفعت عينيها نحو شرفته،حمحم بلطف وعن قصد واضح.. فوجئت به على بعد خطوات منها فأسرعت الخطى مارة أمامه على استحياء لافت ورمقته بنظرة تحتية خجولة، لم يكلمها بقي مشدوها وكأنه لم يصدق أنها بكل هذا الجمال الفاتن، ظلت عيناه لا تغادرانهاإلى حيث مضت حتى غابتوغاب هو عن الدنيا ،لم يدر كيف عاد إلى منزله ولا لماذا استلقى على سريره ، طاب له أن يستحضر ما بقي له منها صورتها المشرقة بجمالها ورائحة عطرها الأخاذونظرتها الخجولة الناعسة وشعرها الأبنوسيالمنسدل بلطف على كتفيها كوشاح أسود، تساءل في نفسه عن سر إسراعها الخطى لما رأته.. هل خشيت منه تحرشا..؟ أم أنه منفرإلى هذه الدرجة؟ أم ماذا بالضبط ..حاول أن يقنع نفسه بأن لاشيء أكيد من كل هذا، ثم استسلم وخضع للتأويلات المتنمرة الماكرة منها والمتناقضةوبينهما كمنتخيالات المؤامرات وعششتأوهام الاحتواءات التي لا يطيق صاحبها صبرا حتى ينتهي من النسج الدقيق لخيوطها ثم يتمتع وهو يرى سهامه قد نفذت.

    وقف ينتظرها في اليوم التاليفي نفس الميعاد وقد بيت لها في نفسه أمرا، بقي منزويا إلى أن ظهرت له من بين جموع المارة قادمة نحوهفخفق قلبه سريعاوتقدم خطوتين إلى منتصف الرصيف وأنفاسه تتلاحق حارة يسمع لها صوتا كالفحيح،أقترب منها مرتبكا وقد جف حلقه من الاضطراب وبمجرد اقترابها منه مال عليها فأومت هي برأسها نحوه في دلال كمن تستعد للسماع ،همس لها بكلمتين طغى عليهما أزيز مزعجلمحركات طائرة عملاقةصم أذنيه وما إن مرتحتى كانت هي قد ابتعدت عنه كثيرا ولكن تركتههذه المرة في شك كبير من أمره ، عاد خائبا إلى منزله يندب حظه العاثر، ولكن الواقع أصبح يحمل ما يبرر انشغاله بالأسئلة الحائرة، هل سمعت حقا كلماته بوضوح ؟ هل فهمتها؟ وهل ستتقبل معانيها؟ هنا تذكر إيماءتها نحوه فتشجع أكثر لإعادة المحاولةوبات مصمما على عمل مافهو يعلم أن المرأة كائن سمعي تستمتع طويلا بكلمات الغزل وحلو الحديث وتميل لمن يجيد شدو أغرود الحب والحياة ويوقد مصابيح الرومانسية في النفوس ويشعل نيران المحبة في القلوب، قضى ليلته يجتهد في محاولة استعادة ما مر عليه من العبارات العذبةويحفظ أشعار الغزل وكلمات الأغاني الرومانسية الرقيقةويستمع لأغاني الحب الدافئة تخرق صمت لياليه الباردة التي  ظلت هكذا دائما طوال فصول السنة الأربعة،وبين أغنية “أنت عمري” و”أنت الحب” بات مشغولا بسيرة الحب ،وبينما هو غارق في ذلككانت هي تقضي وقتا من الليل تحضر أفضل ما لديها من المكياج والملابس لتظهر بها غدا مميزة بجمالها منفردة بسحرها ، لقد كان اهتمامها بسماع ما سيقوله أكبر من أن يعيقه أزيز طائرة أو حتى هدير محركات قطار، نعم، لقد سمعت كلماته جيدا وكم كانت تنتظرها منه، فهمت معانيها قبل أن يبوح بها، وأدركت ما عليها فعله، هي تعلم أن الرجل كائن بصري يتمتع كثيرا بحاسته البصرية بشكل غريزي حتى ولو عن غير عمد،وكأن كلاهما أراد أن يكونالغد أفضل أيامهما، يكون حفلة حياة ووليمة فرح ولحظة لقاء جميل .

جاءت اللحظة المنتظرة، أرسل نظرات الشوق إليها وهي قادمة نحوه من بعيد، اقتربت وهي تخطو متمايلة كزهرة برية تتراقص بفعل النسيم العليل يكاد الناظر إليها يتنسم رحيق الأقحوان، تحدثت ملابسها لغة تشكيلية مليئة بالإيحاءات الرمزية التي تحمل الأبصار إلى تناسق حركتها حيث يلتقي تصميمها بسحر ألوانهافيترجمها كل ناظر إليها على طريقته، مرت أمامه متعمدة مغازلته بلغة الصورة فأسقطت من يديها أوراقا على الأرض ، وبينما هي تجمع ما تبعثر منها بقي هو مشدوها، قدماه مشدودتان إلى الأرض ،مشلولا، لم يجد ما يفعل ، خشي أنظار الناس وتعليقاتهم لو انحنى يساعدها في جمع ما تناثر من أوراقها فمنهم لاشك من سيعلق ساخرا أنه أراد ماكرا أن يجعل هذه الصدفة فرصة للتعارف ،لملمت ما تناثر من أوراقها وجمعت في الوقت نفسه ما تبعثر من عواطفها على الطريق ،فشلت حين أرادت منحه في هذه اللحظة فرصة بصرية له، مضت بعدما خاب أملها في أن يكون الموقف كلقطة فيديو تمثل عرضا خاطفا بأحداث كثيفة ، ظل ساهرا إلى ساعة متأخرة يتذكرما جرى وما كان منه، وكيف فشل في اختبار الجدارةوكأنه لا يزال يعاني من آثار الأنيميا العاطفية، بات يلوم نفسه كثيرا على ضياعه فرصة تعارفه بها، خاصة بعدما أدرك أن أوراقها لم تسقط عفويا بل كان عن قصد وبنية مسبقة منها ،بات مشغولا بها إلى حد القلق بينما هي كانت في نفس اللحظة تغط في نوم هادئ وعميق وكأن لا شيء مما مر عليها شغلها أو أصابها بالأرق.

نهض بعد منتصف نهار اليوم التالي مستنفرا أكثر من أي وقت مضى ليضع حدا يرضيه ، رفضأن تكون المشكلة واضحة وأن يكون حلها أكثر وضوحا ومع ذلك تبقى قائمة فاستمرارها سيعني لديه استمرائها وسيحتاج الأمر منه قوة إقناع نووية، تأهب في الوقت المعتاد ليراها ويصارحها بتعلقه بها، ويبوح لها بحبه، انتظرها بكل والشغفبها في الوقت المعتاد وفي المكان الذي سقطت فيه أوراقها بالأمس،انتظرها بكل اللهفة عليها وفائض الحب في عينيه لا تخفيه نظراته، ولكن طال انتظاره، أصابه بعض القلق وبقي في رواحومجيء، ومع مرورالوقت لاحظ بعض المارة اضطرابه الشديد، وعصبيته الزائدة، لقد مر وقتا طويلا ولم تظهر، يشعر كأن القدر قد حرمه من حقه في التمتع بسحر آيات الحسن فيها، وفي غفلة منه ارتفع الآذان مدويا معلنا صلاة الجمعة، استغفر وتوجه إلى المسجد عله يداوي ما أصابه من تسمم عاطفي عطل لديه الإدراك وأعاق حسن تواصله فصعب عليه التأقلم في كل الأحوال، وعلم أن عسر الحال قد يحرم الناس من متعة الحلال ،وبعدما فرغ من صلاة الجمعة عاد إلى منزله وقد انطفأت في صمت شمعة في ذاكرته .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى