الصراع بين بايدن وترامب انعكاس لمكانة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم
سمير عادل| كاتب عراقي
ما يحدث اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية من صراع بين البيت الأبيض الذي يقوده الرئيس الأمريكي جو بايدن وبين دونالد ترامب الرئيس السابق للولايات المتحدة الامريكية، وتتصدر اخباره جميع وسائل الإعلام العالمية، وتستضيف له محللين وسياسيين من شتى بقاع العالم للتحدث حول ذلك الصراع، هو انعكاس لرؤيتين مختلفتين عن تيارين سياسيين داخل الطبقة الحاكمة الأمريكية حول مكانة الولايات المتحدة الامريكية العالمية على الصعيد الاقتصادي والسياسي كدولة إمبريالية تطل برأسها في الداخل الأمريكي.
غبار وسائل الإعلام الذي يتصاعد على أثر الصراع بين بايدن وترامب يطمس الحقيقة، ومفادها أن أمريكا سبعة العقود المنصرمة، لم تعد أمريكا اليوم، وما كانت تجنيها الشركات والمؤسسات المالية الامريكية من الصفقات التجارية والصناعية والتطور التكنولوجي من رؤوس أموال، عبر الهيمنة الامبريالية الامريكية على العالم، وضخها بالداخل الأمريكي ليبني الرخاء الاقتصادي بدأت تتقوض، وبدأت شمس دولة امبريالية جديدة تشرق على العالم تسمى الصين.
ان ذلك الرخاء الاقتصادي شكل “الحلم الأمريكي” وهو النموذج الذي سوق له منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتدشين حقبة الحرب الباردة في مواجهة الكتلة الشرقية، سواء على الصعيد الرخاء الاقتصادي الذي تمتعت به الولايات المتحدة الامريكية لعدة عوامل منها عدم خوضها الحرب العالمية الأولى التي انهكت بقيت الدول الامبريالية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وخوضها لحرب عالمية ثانية بعيدة عن أراضيها بعشرات الاف من الكيلومترات، او على الصعيد السياسي في الترويج لنظامها الديمقراطي وطالما تفاخرت به، وحاولت تبرير هيمنتها الإمبريالية عبر قيادة نشر نموذجها وفرضها على العالم، اما عن طريق وكالة مخابراتها المركزية (سي آي أي) لتمويل ودعم وتدبير الانقلابات العسكرية في القرن المنصرم، كما حدث في ايران -مصدق والعراق – عبد الكريم قاسم واندونيسيا – سوهارتو وتشيلي -سلفادور اليندي وعشرات الأخرى من بلدان أمريكا الجنوبية واسيا، او عن طريق الثورات الملونة في بلدان الكتلة الشرقية بعد طي صفحة الحرب الباردة.
وحاولت الولايات المتحدة الامريكية بحسم نموذجها الاقتصادي والسياسي وفرضها على العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، وفرض نظام عالمي أحادي القطب بقيادته عن طريق عسكرتاريتها، وابتكرت تكتيكات وسياسات لتبرير حروبها وتدخلاتها في العالم، مثل الثورات الملونة والربيع العربي والنظام العالمي الجديد الذي دشن بالحرب الخليج الثانية ثم احتلال أفغانستان وبعد ذلك غزو واحتلال العراق ومشروع الشرق الأوسط الجديد ..الخ، الا ان المرحلة الانتقالية اذا صح التعبير عنها، استغرقت ما يقارب ثلاثة عقود مرت بها العالم، وقد وصلت الى نهايتها، وان الحرب الروسية على أوكرانيا هي القشة التي قصمت ظهر البعير، وأسدلت الستار على تلك المرحلة، وفتحت صفحة جديدة عنوانها افول النظام العالمي بقيادة أمريكا والدخول في مرحلة مخاض عالم متعدد الأقطاب.
عالم الهيمنة السياسية لأمريكا والتي تعني بنهاية المطاف الهيمنة الاقتصادية ينعكس اليوم على أوضاع أمريكا الداخلية، ورياح العولمة الرأسمالية التي بشر بها الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أتت بما لم تشته سفنها، فدولة مثل بريطانيا التي كانت تحتل المركز الخامس في مصاف الدول الصناعية التي تسمى (جي ٢٠) تتدحرج الى الخلف لتحل محلها الهند، وفي قطاعات عديدة بدأت أمريكا تفقد ريادتها لصالح الصين مثل -الدفاع، والفضاء، والروبوتات، والطاقة، والبيئة، والتكنولوجيا الحيوية، والذكاء الصناعي، وتكنولوجيا الحاسبات- تقرير المعهد الأسترالي للسياسة الاستراتيجية (ASPI) -، ويتوقع الخبراء الاقتصاديون بأن الصين ستزيح الولايات المتحدة الأمريكية خلال عشر السنوات القادمة، أي بعبارة أخرى ما كانت تجنيها الولايات المتحدة الأمريكية من هيمنتها الاقتصادية التي ساهمت برخائها الاقتصادي وانعكاسه على الداخل بدأ يتقوض شيئا فشيئا، وبدأ (الحلم الامريكي) يتحول الى سراب أمريكي.
التيار الذي يمثله ترامب ويلتف حوله الغالبية العظمى من الحزب الجمهوري يسعى في إعادة احياء (الحلم الأمريكي) عبثا، او بأصح العبارة إعادة انتاج وهم (الحلم الأمريكي) لتعبئة المجتمع حوله وازاحة الجناح الاخر في الطبقة السياسية الحاكمة، عن طريق تقوية النزعة القومية المحلية، ورفع شعار (أمريكا أولا) الذي جاء في حملته الانتخابية الأولى، واستطاع لف اقسام اجتماعية واسعة وكبيرة في أمريكا وخاصة في صفوف الطبقة العاملة في المناطق الصناعية التي شهدت تدهور كبيرا على صعيد انخفاض الأجور وتدهور الحالة المعيشية، او في المناطق التي غادرتها الشركات الامريكية الى الصين والمكسيك وغيرها من البلدان التي تتوافر فيها ايدي عاملة رخيصة، وكذلك في المناطق الريفية، ووجه ترامب تهديدات عندما كان في البيت الأبيض للشركات الامريكية في العالم وخاصة في الصين من اجل اعادتها الى الداخل الأمريكي، وبموازاته فرض العقوبات الاقتصادية على الشركات الصينية واستغل انتشار وباء كوفد- ١٩ لتنظيم حملة سياسية ضد الصين التي كانت مصدر الوباء الى العالم، واتبع سياسة مغايرة تجاه الحلف الأطلسي او الناتو، حيث اعلن بأن الولايات المتحدة الامريكية غير قادرة على تمويل الحلف، وعلى الدول الأعضاء اذا كانت بحاجة الى حماية أمريكا فعليها زيادة مشاركتها في التمويل، حيث طالب المانيا برفع الدعم الى ٢٪ من دخلها القومي التي رفضت حينها، وعلى اثرها سحب ترامب قوات عسكرية كبيرة من قاعدتها في المانيا، ولكن بعد الحرب الأوكرانية اصبح اقتصاد الحرب له الأولوية ، وزادت جميع الدول الاوربية من مساهمتها المالية للحلف.
ويجدر بالذكر، خطاب باراك أوباما في تجديد ولايته الثانية، فهو ركز على مسألتين، الأولى بأن الولايات المتحدة غير قادرة على إدارة العالم وبحاجة الى شركاء، والثانية بأن سياساته ستتركز على المحيط الهادي لاحتواء الصين، وكانت قرارات الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط وأفغانستان منذ عهد إدارة أوباما هو امتداد لسياسة جناح محدد داخل الطبقة الحاكمة في أمريكا سواء مثلها أوباما او بايدن أو ترامب، ويعي بالتالي انحدار الدور الأمريكي في العالم وعدم قدرته على المنافسة الاقتصادية والتجارية مع الدول الصاعدة وخاصة مع الصين، ولذلك ان جميع التيارات السياسية داخل الطبقة الحاكمة متفقة بأن الصين هي أكبر تهديد للولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا ما تتبعنا الصراع الذي حدث حول رفع سقف الدين بين الديمقراطيين والجمهوريين، وانتهى بصفقة أجمع عليها الحزبين، هو الإبقاء على موازنة الدفاع التي تقدر بما يقارب ترليون دولار مع التخفيض في القطاعات الأخرى التي تشمل الصحة والتعليم والبنية التحتية وغيرها، وهذا يزيد من المردود السلبي على الرفاه والرخاء الاقتصادي الذي تمتعت بها الولايات الامريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وانعكس على الأوضاع الاقتصادية لعموم المجتمع الأمريكي.
وقد بات الانقسام الاجتماعي الحاد داخل الولايات المتحدة الامريكية، وطفو اليمين العنصري على السطح، والإشهار بسلاحه دون أي تردد وخوف في المجتمع، ضاربا بعرض الحائط كل المؤسسات القانونية والأمنية كما حدث في احتلال كابيتول بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ناهيك عن أعمال القتل التي تحدث بين الفينة والأخرى ضد السود، يعكس وضعا اقتصاديا وسياسيا محددا الذي هو انعكاس مباشر لما وصلت اليه مكانة الولايات المتحدة الامريكية في العالم على الصعيد الاقتصادي والسياسي.
وتثبت تجارب تاريخ النظام الرأسمالي على الأقل خلال القرن المنصرم على المعادلة التالية؛ بقدر اشتداد الازمة الاقتصادية، بنفس القدر تتقوى التيارات القومية والعنصرية اليمينة وتصبح بديل سياسي واجتماعي مقبول في المجتمع، والامثال كثيرة على ذلك مثل صعود النازية والفاشية في أوروبا التي اشعلت حربا عالمية كارثية على الانسانية، او ما يحدث اليوم من انتعاش اليمين القومي والعنصري في عموم اوربا.
فتلك التيارات هي الملاذ الأخير لإنقاذ ما يمكن انقاذه للطبقة البرجوازية الحاكمة في ترحيل أزمتها الاقتصادية عبر طريقين، الأول تحميلها على كاهل الطبقة العاملة وعموم الشرائح الاجتماعية المسحوقة مثل تشريع سياسات التقشف وشد الاحزمة على البطون، والثانية عن طريق حرف أنظار المجتمع وخاصة الطبقة العاملة التي هي دائما وقودا لحروبها سواء العسكرية أو الاجتماعية، وإشاعة أوهام قومية في صفوفها وبأن سبب أزمتها الاقتصادية هم اللاجئون والمهاجرون والسود والمرأة كما نراه اليوم بشكل واضح في الولايات المتحدة الأمريكية.
ان الصراع الذي يسوق له الاعلام بين تيار يمثله بايدن حيث يحوم حوله تهمة تلقيه رشوة بقيمة ٥ ملايين دولار من مسؤولين اوكرانيين عندما كان نائب لرئيس اوباما و تستره على فساد ابنه باقالة المدعي العام الاوكراني عندما كان يحقق بقضايا الفساد عبر الضغط السياسي والابتزاز المالي على المسؤولين هناك حسب قناة (فوكس نيوز) اليمينية الامريكية، وأخر يتصدره ترامب المتهم بالابتزاز والتحرش والاغتصاب الجنسي وعدم دفع الضرائب، فأقل ما يوصف بـ المهزلة السياسية التي تحدث اليوم في أمريكا، وتكشف على زيف النظام الديمقراطي الفاسد الذي طالما تفاخرت بها الولايات المتحدة الامريكية، في صراعها مع الدول التي لا تدور خارج فلكها، وليس عبثا او سخرية عندما يصرح ترامب مرة بأنه سيجفف المستنقع في واشنطن عندما وصل الى سدة الرئاسة في عام ٢٠١٦، وتصريح آخر عندما صرح به بعد الجلسة الأولى لمحاكمته بتهمة ٣٧ قضية ومحورها الاستحواذ على وثائق سرية دون وجه قانوني، عندما قال بأنه سيدمر الدولة العميقة إذا ما فاز برئاسة ثانية.
وان ما يميز الحملة الانتخابية لبايدن وترامب اليوم التي بدأت مبكرا عن المنافسة الانتخابية بين ترامب وهيلاري كلينتون في نهاية عام ٢٠١٥، كما قلنا سابقا إذا كان الخيار الأخير هو الخيار بين الجدري والطاعون، فإن خيار اليوم أي بين بايدن وترامب هو الخيار بين الطاعون والطاعون.
وعلى الرغم ان استطلاعات الرأي الأخيرة تبين أن الغالبية العظمى من الامريكيين لا يريدون بايدن او ترامب، الا انه ليس أمامهم أي بديل سياسي اخر قادر على انتشال المجتمع الأمريكي من المستنقع الذي يقبع عليه، من كراهية السود والنساء والمثليين والمهاجرين واللاجئين وإعادة أمجاد العرق الأبيض والتفوق العنصري.. الخ، بسبب النظام (System) الموجود حيث يسلب حق اختيار كل من ليس له قدرة على دفع تكاليف لدعايته الانتخابية عند الترشيح، التي تقدر بمئات الملايين من الدولارات، ولا تقف خلفه المؤسسات المالية والشركات العملاقة الكبيرة، فشخص مثل (بيرني ساندرز) و يعتبر من يسار الحزب الديمقراطي اطيح به مرتين في السباق التمهيدي الرئاسي داخل الحزب الديمقراطي بسبب برنامجه الاقتصادي، الذي يشمل التقليل من موازنة الدفاع وإنفاقه على التعليم والصحة والخدمات وتوفير فرص العمل على حساب نفوذ الشركات والمجمع الصناعي الحربي وحروب الهيمنة الامريكية، مرة عندما تم اختيار هيلاري كلينتون في انتخابات ٢٠١٦ وأخرى عندما تم اختيار جون بايدن في انتخابات ٢٠٢٠، فما بالك إذا أراد أي عامل ان يرشح نفسه للسباق الرئاسي، او شخص منحدر من الطبقات الكادحة!
وأخيرا نقول ان الطبقة السياسية الحاكمة التي تمثل مجمل الشركات والمؤسسات المالية والمجمع الصناعي العسكري والمدني منسجمة حول رؤية واحدة، الا أنها لا تفصح عنها، بأن ما يحدث لأمريكا حول العالم يجد انعكاسه في الداخل الامريكي، وان أفول الهيمنة الاقتصادية والسياسية للقطب الواحد سيعمق الانقسامات الاجتماعية، وأن ما يشاع بإمكانية انزلاق المجتمع الأمريكي نحو حرب أهلية او في افضل الأحوال تتحول أمريكا الى واحدة من جمهوريات الموز، ويأتي هذا على لسان عدد ليس قليل من المحللين والسياسيين الأمريكيين ومراكز الدراسات والأبحاث بمن فيهم صناع القرار، ويحمل بين طياته جانب من الصواب، ولكنه ليس حتميا إذا ما ظهر بديل تقدمي وتحرري يطرح نفسه أمام البديلين المقيتين.