سياسة

دمهم في رقبتك يا بيبي

نهاد أبو غوش |فلسطين
يبتهج رئيس الوزراء الإسرائيلي حين يناديه أنصاره باسم التحبب “بيبي”، ويطرب أكثر حين ينشد له جمهوره اليميني المتطرف “بيبي ملك إسرائيل” خلال الانتخابات وبعدها وفي التظاهرات الحاشدة، كما بعد كل “إنجاز” عسكري مثل مجزرة مخيم جنين الأخيرة، التي نفذت بالتعاون بين مختلف الأذرع العسكرية والأمنية، بإشراف مباشر من رئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس الأركان الذين تابعوا العملية / المجزرة أولا باول.
لكن إسرائيل ليست وحدها في الميدان لتقرر ما تشاء وتمرر إرادتها على الفلسطينيين، وهكذا جاءت عملية القدس في مستوطنة “نفي يعقوب” لكي تقلب السحر على الساحر، وتعيد تذكير العالم بالحقيقة العلمية المثبتة بأن لكل فعل رد فعل، ولو ساد المنطق والإنصاف لدى سياسيي العالم ومحلليه لحمّلوا لنتنياهو مسؤولية كل ما جرى ولصرخوا في وجهه قائلين “دمهم في عنقك يا بيبي”، فهو المسؤول الأول والأخير عن دماء الفلسطينيين والإسرائيليين، ولولا المجازر المتواصلة التي ارتكبتها إسرائيل، لما وقعت عمليتا القدس وسلوان.
العالم المنافق الذي تلعثم وتردد في إدانة مجزرة جنين، بل عمل على تبريرها وتبنى الرواية الإسرائيلية الكاذبة، ولكنه في المقابل سارع إلى إدانة عملية القدس، كان عليه أن يدقق قليلا في مواقفه: فمجزرة جنين ارتكبتها دولة عن سابق تصميم وتخطيط، وشاركت في تنفيذها والإشراف عليها والثناء على منفذيها قيادات سياسية وعسكرية رفيعة، بينما عملية القدس نفذها شاب منفرد مدفوعا بمشاعره وتقديراته الشخصية، وعملية سلوان نفذّها طفل دون سن المساءلة الجزائية والقانونية، وهو نفسه ضحية لسياسات الاحتلال التي تدفع هذا الطفل وأترابه إلى الرد على جرائم المحتلين بدل أن يعيش حياته الطبيعية آمنا مطمئنا في مدرسته ووسط أهله، وهي مؤشر يدل إلى اي مدى بلغ تأثير الجرائم الإسرائيلية المتواصلة في تبديد الأمل لدى أجيال متلاحقة من الفلسطينيين.

الفاشيون والمتطرفون انتشوا لنتائج مجزرة مخيم جنين، أطنبوا في مدح المجرمين ووصف دقة المعلومات الاستخبارية التي حصلوا عليها، وبراعة التنسيق بن أذرع الأمن ووحدات الجيش المختلفة. أما بشأن الضحايا المدنيين في العملية فاكتفوا بالقول أن الجيش “يفحص دقة التقارير التي تحدثت عن إصابة سيدة مدنية في العملية”، لم يفحصوا ولم يعتذروا، بل أسكرتهم النتائج عن رؤية ما الذي تحدثه هذا الجرائم في قلوب الفلسطينيين ووعيهم ووجدانهم، فلم يلتفتوا لخزان القهر والألم والغضب الذي يتراكم في صدر كل فلسطيني، فيدفعه إلى التماس كل طريقة ممكنة للرد، يفشل الفلسطيني احيانا ولكنه ينجح في أحيان أخرى، فتنشأ معادلة غريبة وعجيبة لتحقق نوعا من التوازن بين جبروت الآلة العسكرية الهائلة وأدوات الفتك والقتل والتدمير غير المحدودة التي تملكها إسرائيل، وبين إرادة شاب فلسطيني لا يملك سوى أبسط الوسائل، وإرادة تعجز كل أدوات القتل والبطش عن إخضاعها.
إسرائيل لا تُراجع نفسها، ولا تستخلص العبر والنتائج الصحيحة من التاريخ القديم والحديث، هي محكومة بنظرية تقول أن “ما لا يمكن تحقيقه بالقوة، يمكن تحقيقه بمزيد من القوة”، ومسكونة بقناعة أنها انتصرت في جميع الحروب التي خاضتها ضد العرب، هزمت جيوش ثلاث دول عربية في وقت واحد، وقصفت عواصم عربية عدة بعضها يبعد آلاف الأميال، نفذت عمليات اغتيال على امتداد العالم ولم يحاسبها أحد، تملك تفوقا عسكريا نوعيا وكميا على كل جيوش العرب مجتمعة، لديها أقوى سلاح جو في المنطقة ومعه ترسانة من أسلحة البر والبحر والتكنولوجيا الفائقة الذكاء وبضع مئات من الرؤوس النووية، علاوة على الدعم الأميركي والغربي غير المشروط، لكل ذلك تفترض أنها تستطيع إملاء إرادتها على المهزومين، أي على العرب والفلسطينيين لكي يسلموا بالهزيمة ويرضخوا لشروط الاستسلام التي تريد إسرائيل فرضها بقوة الحديد والنار والمجازر، الحل الذي لخصه نتنياهو بقوله في جلسة نيل حكومته الثقة ” حق تقرير المصير في أرض إسرائيل هو حق حصري بالشعب اليهودي”، أي أن الفلسطينيين ليست لهم أي حقوق وطنية على أرضهم، وأقصى ما يمنح لهم هو البقاء مع حقوق معيشية مقننة ومجتزأة.

مشكلة إسرائيل في حربها التي لا تنتهي أنها تواجه شعبا من ملايين الأفراد، لا جيشا أو أو نظاما سياسيا يمكن هزيمته بعملية عسكرية، فالشعوب لا يمكن هزيمتها، ولو نجحت آلة القتل الدموية في اغتيال مناضل أو مجموعة من الفدائيين، فإن ذلك لن يكون سوى حافز لغيرهم من الشبان الذين يتفتح وعيهم على مشاهد القتل والتنكيل والجرائم التي لا تتوقف ضد أهلهم وشعبهم، فتتعزز لديهم الرغبة في الرد والانتقام، وما حالة الشهيد خيري علقم الذي هو حفيد لشهيد يحمل الاسم نفسه قضى في عملية إرهابية نفذها متطرف يهودي، إلا مثال حي على ذلك. ما على إسرائيل أن تخشاه أكثر هو النموذج الذي بات يمثله خيري في نظر آلاف الشبان الفلسطينيين الذين يتوقون للسير على خطاه ومحاكاته.
ترفض إسرائيل التفكير بأية حلول خارج ما تقترحه الدبابة والبندقية والطائرات الحربية، وهذا المنطق هو محل إجماع القوى الصهيونية سواء المشاركة في حكومة ائتلاف اليمين الفاشي المتطرف، أو المعارضة التي تتظاهر حاليا ضد حكومة اليمين، وللتذكير فإن حكومة بينيت- لابيد- غانتس هي التي دشنت هذه الموجة من التصعيد الدموي المستمر منذ شهر آذار من العام الماضي، وسجلت أكبر حصيلة من عمليات القتل والإعدام الميداني وقتلت أكثر من 220 شهيدا فلسطينيا، ورفضت فتح أي مسار سياسي مع الفلسطينيين، وحصرت تعاملها مع السلطة على القضايا الأمنية والاقتصادية.
الشعب الفلسطيني مرّ بظروف أقسى من هذه وأصعب بكثير، ولكنه واصل نضاله وتمسكه بحقوقه على الرغم من كل الظروف، وهذه القضية حية وقائمة منذ 125 عاما، ويستحيل أن تحسمها حكومة ائتلاف الفاسدين والمتهورين لمجرد أنها لا تملك بدائل سياسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى