منصة فلسفية: هل كان ماركس ماركسيا؟
بقلم: نبيل عودة
nabiloudeh@gmail.com
(حقا كان تراث ماركس هو السائد في القرن العشرين +ماركس رد على إبلاغه ان حزبا ماركسيا جديدا نشأ في فرنسا بقوله:” أنا ماركس ولكني متأكد أني لست ماركسيا”+ مشكلة معظم الماركسيين أنهم لم يطلعوا على التراث العلمي- الفلسفي العظيم بعد ماركس الذي نقض العديد من مقولات ماركس الجوهرية).
هدفي من هذه المراجعات للفكر الماركسي، إثارة التفكير والحوار العقلاني والتوعية العامة خاصة للأجيال الناشئة، وتوجيه وحث الحركات الماركسية الى ضرورة اعاد بناء نهجها الفكري، بناء على التغيرات العاصفة في الواقع السياسي والاقتصادي الذي عصف بعالمنا وقلب الكثير من المفاهيم.
ألاحظ ان بعض من يدعون أنهم ماركسيون، حتى ولو كانوا مستقلين لا ينتمون لتنظيم ماركسي أيا كان نوعه، انتمائهم على الأغلب هو مجرد لغو كلامي، لديهم معرفة ببعض المواضيع بشكل سطحي وبدون تعمق، ربط أنفسهم بتيار الماركسية هو موقف سياسي وانساني وليس وعيا إيديولوجيا. والمضحك ان قادة احزاب شيوعية يثرثرون دون وعي للمقولات الماركسية التي تجاوزها عصرنا ولم تقم الحركات الشيوعية بتطويرها.
لا بد من الإشارة إلى مسألة هامة جدا وهي ان معظم الماركسيين في شرقنا العربي لم يطلعوا على التراث العلمي الفلسفي العظيم الذي نشا بعد ماركس. وأكاد أقول انه حتى اطلاعهم على تراث ماركس سطحي للغاية. وماركسيتهم اشبه بترديد ببغاوي، هذا لا يقلل من أهمية ماركس الفلسفية… لكن ماركس ليس نهاية الفلسفة ولا خاتم الفلاسفة. وبعض الأصوليين الماركسيين يصرون ان فلسفة ماركس هي فلسفة علمية. واكاد اكون على ثقة انهم يجهلون معني العلم وآفاقه.
لم يخلق الفلاسفة كأنبياء. المستهجن ان بعض من بقايا اليسار الماركسي يطرحون مواقف كانت تصلح لبداية القرن العشرين، مثلا شيوعي أردني اسمه فؤاد ألنمري، احترم اصراره وتمسكه بالأيديولوجيا ولا اراه مصيبا، يكتب حلقات عن ماركس والاتحاد السوفييتي تحت عنوان: ”ليس للماركسية ما قبلها أو ما بعدها” ويجعل من ستالين نبي الماركسية. ويضيف مثل رجل الكهنوت: “لا يجوز لأي أحد أن يتحدث عما قبل الماركسية أو ما بعدها إلا بعد أن يحيط بأدق مبادئ وقوانين علوم الماركسية ” أي ان الماركسية كانت خاتمة العلوم أيضا ولا اعرف مدى فهمه للعلوم وتطورها عبر النقد والنقض؟ رغم ذلك يعجبني بإيمانه المطلق وتمسكه بالحلم الانساني للشيوعية كما طرحته الماركسية.
النمري مناضلا يستحق التقدير والتبجيل، لكنه باقتحامه الفلسفة ضمن رؤية دينية للماركسية، ضرره أضعاف ما يفيد الفكر الماركسي. فهو ينفي كل الفلسفة الإنسانية قبل ماركس وكل الفلسفة التي تطورت بعد ماركس، هكذا ثقفونا ايضا بالجامعة الشيوعية في موسكو، انا شخصيا بمساعدة استاذ الاقتصاد السياسي في وقته تحررت من الايمان المطلق بالماركسية وارى بالماركسية حتى اليوم احدى قمم الفكر في التاريخ الانساني. حقا بعض المقولات لم تعد تتلاءم مع الواقع المتغير. النمري متمسك بحلم عظيم طرحته الفلسفة الماركسية لبناء المجتمع الانساني العادل، لكنه بقي حلما لم ينفذ. بقيت اصطلاحات أولية معظمها عفا عنه الدهر، وحدث معي مرة في محاضرة ألقاها زعيم شيوعي محلي في إسرائيل، فقال ان حزبه “ماركسي لينيني يؤمن بالصراع الطبقي ألتناحري وانتصار البروليتاريا ”.
فحبست ضحكتي شاعرا بالأسف على ما وصله الماركسيون في الشرق.
لا مكان لأن اوضح له ان كل مفهوم الصراع الطبقي التناحري تلاشى من المجتمعات الإنسانية مثل فقاقيع الصابون، وان البروليتاريا ظاهرة أوروبية لم تنشا خارج اوروبا واليوم لم تعد قائمة اطلاقا. ولا بد من توضيح لأصل اصطلاح “البروليتاريا”، اول من استعمل هذا الاصطلاح اقتصادي بريطاني واصفا فئة العمال المسحوقين، وهم بالأصل فلاحون ورعاة صودرت اراضيهم وخربت مزارعهم ومراعيهم في بداية النهضة الرأسمالية في أوروبا، تحولوا الى عمال غير مهنيين في الصناعات الرأسمالية، والتعبير (بروليتاريا) ميزهم عن العمال المهنيين، أي الفئة الطبقية الأرقى ماديا واجتماعيا. وتاريخيا أُقتبس الاصطلاح من الامبرطورية الرومانية التي وصفت غير القادرين على دفع الضرائب بالبروليتاريا.
أحزاب بدون فكر وتثقيف أيديولوجي لكوادرها، بجهل للفلسفة التي يدعون تمثيلها، ثرثرة جهل كامل لأوليات الفكر الماركسي والفكر الفلسفي عبر التاريخ وما بعد ماركس، الى جانب ضحالتهم الثقافية العامة، وتمسكهم بأوهام تنسب للماركسية، كذلك رؤية مشوهة وسطحية للتجربة السوفييتية، التي انتهت بالتفكك. هذا هو واقع اليسار الماركسي العربي كله، وواقع الشيوعية في العالم كله. لا اتهم ماركس، بل من يدعون انهم ماركسيون، وقد أجابهم ماركس في حينه، انه ليس ماركسيا .. اذا كانوا هم ماركسيون!!
طبعا أختلف مع بعض أفكار ومفاهيم ماركس بالذات التي أرى انها فقدت قيمتها مع مرور الزمن ومع تغير وتبدل الظروف والشروط التاريخية. وهو أمر طبيعي، العلوم أيضا ترقى وتنفي ما سبقها من مفاهيم. وتطور الجديد وإلا أصبحت العلوم أكثر تخلفا من داعش!!
فلماذا يجعلون من ماركس شبه اله جديد؟
الا يعلمون انها اهانة لماركس في نظرتهم الدينية لفلسفته وهو الذي طرح التطور الدائم والتغير في فلسفته المادية الجدلية وقوانينها وفرضياتها؟
ان “الطريقة العلمية” هي اسم شامل لتقنيات تستعمل لبحث الظواهر، وتجميع المعلومات الجديدة، او إصلاح ودمج لمعرفة سابقة. هذه التقنيات تفتح الطريق أمام الحسم بين أفكار ومفاهيم مختلفة بطريقة علمية لها آليتها ومختبراتها وطرقها وبنك المعلومات الهائل وليس مجرد تغريدة طارئة نصها أبسط من إعداد فنجان قهوة!!
ان الطريقة العلمية عبرت تطورا واسعا خلال التاريخ وجزء من القفزات الكبيرة في العلوم تعتبر نقاط انطلاق بتغيير الأـسلوب العلمي، لأن تطور العلوم لا يتوقف.
من نفس المنطلق الأمر الطبيعي تماما أن تفقد بعض أفكار ماركس قيمتها وان تأتي مكانها نظريات جديدة ليست ضد الماركسية بل استمرارا للفكر الفلسفي وتطويره، كل شيء يتجمد يفقد قيمته ويموت… ان الأفكار والمفاهيم جميعها من دون استثناء هي دائماً بنت تاريخها، وكل جيل يضيف تطورات تطابق عصره. مشكلة معظم الماركسيين أنهم لم يطلعوا على التراث العلمي- الفلسفي العظيم بعد ماركس، فهم لا يقرؤون إلا دينهم!!
الأستاذ في جامعة لندن ماكسيميليان روبل قال: “أن تاريخ القرن العشرين هو تراث ماركس”. طبعا ليس تراث ستالين، ولا تراث ماو .. تراثهم لم يكن ماركسيا!!
كتّاب كثيرون من الغرب والشرق كتبوا عن ماركس بحرية، بدون ضغوطات أيديولوجية، كتبوا عن ماركس الإنسان، الفيلسوف، الاقتصادي وعن ماركس الثوري.
عندما ابلغ رفاق ماركس، ماركس، ان حزبا ماركسيا جديدا نشا في فرنسا، رد عليهم :” الذي انا متأكد منه هو أني ماركس ولكني لست ماركسيا”
معنى كلامه ان الأحزاب التصقت عنوة بفكر ماركس دون استيعاب مدلولات الماركسية الإنسانية. ماركس كان إنسانا قبل ان يكون منظرا وفيلسوفا وقائدا فكريا وسياسيا. فهل يتحمل ماركس جرائم ستالين ضد الشعوب السوفييتية بقتله ملايين ليفرض عليهم نهجه وسلطته ومشروعة المدمر لإنشاء ما يسمى “شعبا سوفييتيا” من مجمل عشرات القوميات التي كانت في الاتحاد السوفييتي؟
هل هو مذنب بنهج الأحزاب الشيوعية التي تتمسك بقشور لا علاقة لها بإنسانية ماركس وفكره؟ هل تأليه ماركس يتطابق مع فكر وفلسفة ماركس؟ الم يتأثر ماركس كغيره من الفلاسفة والعباقرة بما أنجزته الإنسانية خلال كل تاريخها من فلسفة وعلوم ورقي حضاري؟
أن أزمة اليسار (خاصة اليسار الماركسي) في بلداننا وفي العالم، تتمثل في تراجعه المتواصل وتهميش دوره ووزنه. هناك أسباب عديدة وعلى رأسها الخلل البنيوي الذي رافق التجربة الاشتراكية منذ البداية وجعلها تفشل في تحقيق ما ادعى قادتها أنهم يستلهمون فيها مشروع ماركس لتغيير العالم باسم الاشتراكية فلم تتحقق العدالة الاجتماعية أو المساواة أو الحرية والكرامة للمواطنين، ولم يجر تطوير دولة اشتراكية، بل ظلت الدولة هي نفسها الدولة الرأسمالية. وهو موضوع هام سأعود إليه قريبا. طبعا هناك أسباب تتعلق بفساد واسع النطاق، وبطرق “إدارة حزبية” للاقتصاد بدل إدارة مهنية علمية.
نحن اليوم في مجتمعات تختلف عن أواسط القرن العشرين، الثقافة والتعليم والوعي الفكري أصبح مميزا للأكثرية المطلقة من المواطنين، لم يعد القائد السياسي أبرز المثقفين في مجتمعه، كما كان الحال سابقا، لذا ما يدعيه بعض الماركسيين بأنهم يمتلكون شرعية النطق باسم ماركس (مضافا إليه اسم لينين عنوة) والدفاع عن أفكاره واتهام مفكرين ماركسيين بالتحريفية أو الخيانة، صار ذلك من مخلفات الماضي.
رؤيتي ليست جديدة، بانه سقطت نهائيا المفاهيم القديمة بان الأحزاب هي التعبير عن مصالح طبقية!!