إلى أستاذي …
أحمد لفته علي _ بغداد
حين استرجع واجمع شريط الذكريات لايام مضت، وايام قادمات.. أتذكر هذه الأبيات اللطيفة القوية والمؤثرة للشاعر التركي الكبير ناظم حكمت
(اجمل البحار ذاك الذي لم نذهب اليه بعد.
واجمل الاطفال من لم يكبر بعد.
واجمل ايامنا تلك التي لم نعشها بعد.
(ان وضع الآمال في ادراج المستقبل هو الذي يقينا السقوط في خيبة الحاضر والمستقبل، على خط النضال، سلاح كفاحي من الطراز الاول) كما يقول الكاتب حّناً مينا، وايام الشباب في ظورها الاول هي كالازهار التي تتفتح لتقابل الضوء والشمس والشباب حركة وحيوية وتجدد ونشاط دائب لا تعرف الكلل. ولكن حياتنا نحن ابناء الطبقة العاملة رغم آلامها وشقائها وحرمانها الكثير لها معان ومآس محفورة في ذاكرتنا ولا يعرف قساوتها الا من كابدها..
ولهذا نحن نختلف عن ابناء الطبقات الميسورة في الكثير من الجوانب الحياتية وان القساوة في الحياة والحرمان تحفر.. اخاديد وندوباً وجراحاً لا تحصى في مجرى الحياة وان الحياة بالنسبة لنا مدرسة او ورشة كبيرة لتعلم اشياء واشياء.. ومن اجمل هذه الاشياء حفظ الاحداث الصغيرة والدقيقة وتذكرها.. وان تذكرها فيه دروس وعبر.. والشيء الذي يراودني في ذكرياتي هو انني في الصف الاول المتوسط في الاعوام بين 1960-1961م وعمري اثنا عشر عاماً..
شاء القدر، او هكذا جرت الامور، حيث نسب الينا معلم من المدارس الابتدائية لتدريسنا مادة الرسم لم يكن هذا المعلم كبيرا في العمر فقد كان في حدود التاسعة والعشرين مربوع القامة والعضلات، ذا بشرة سمراء داكنة واسنان بيض وفي اليوم الاول وفي حصة الرسم دخل علينا هذا المعلم وبعد ان دار في الصف واخذ يرمق الطلاب بنظراته، توقف امام السبورة، وبدأ الكلام دون التعريف بنفسه للصف او تقديم شيء عن المادة التي سوف يقوم بتدريسها لنا، بل بادرنا بالسؤال التالي: من منكم ايها التلاميذ يستطيع ان يعرف معنى كلمة بروليتاريا، وبعد ان ساد الصمت اجواء الصف..
اعاد السؤال مجددا: من يعرف معنى كلمة بروليتاريا؟ رفعت اصبعي وانا على شيء من الخجل والارتباك علني اجيبه على السؤال واحصل على استحسان الاستاذ وتشجيعه لي..
فأشار لي بالاجابة: قلت استاذ:البروليتاريا مصطلح يعني شغيلة الفكر واليد، وتنصرف للتعبير عن تحالف العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين المنحدرين من اصل عمالي او فلاحي… ولم ادر الا باقتراب الاستاذ مني: وبعد حدق في عينيَّ، هوى بصفعة قوية على وجهي.. والحيرة والذهول تملؤني من تصرف الاستاذ هذا…!! وبعد ان زال الدوار من رأسي… فتحت عينيَّ، بعد ان تجمع الدمع فيها، ولم اجد الا بابتعاد الاستاذ عني والتحديق بغيظ ونقمة مني قلت في ذهول لماذ يا استاذ: ما هو الجزاء؟ اجاب: انك شيوعي.. ولم اكن افهم للشيوعية في حينها اي معنى قلت عجبا مجيبا الاستاذ: لست شيوعيا قال: بل ان احد افراد اسرتك هو من الشيوعيين..!! قلت: لايوجد في اسرتي من هو شيوعي.. بل اني عرفت المصطلح نتيجة القراءة في الصحف والمجلات التي راجت في الاسواق بعد ثورة 14 تموز المجيدة في حينها..
ومنذ تلك الصفعة النارية من الاستاذ المربي رحت ابحث وادرس واتعمق المعاني لفك الرموز.. ورغم صفعة الاستاذ ذاك فانه لم يكتف عند تلك الصفعة بل راح الى ابعد من ذلك اذ رسبني في مادة الرسم في امتحان نصف السنة لتلك السنة من العام 1960-1961 رغم نجاحي بدرجات عالية في بقية الدروس مثل اللغة العربية والانكليزية والرياضيات والعلوم رغم اعتزازي بموضوع الرسم الذي لايقل عندي اهمية عن باقي الدروس..
لقد علمني معلمي بصفعته ان كلمة بروليتاريا مرعبة ومخيفة بل مزلزلة لاركان الجهل والتخلف بل انها تعني قوة لا يستهان بها في مجابهة صعوبات وتحديات الحياة… ومنذ ذلك الحين عرفت ان للمعرفة قوة، قوة كبيرة ترعب وتخيف، وبعدمضي اكثر من اربعة عقود على هذه الذكرى الاليمة ، فاني احفظ لمعلمي ولامثاله من المعلمين الشكر والعرفان لانه علمني، وعلمته وارعبته وانا يافع صغير يفتح عينيه ليعانق شمس المعرفة.
لقد قال حكيم وكان على صواب (الانسان مصدر كل علم) نعم ان الناس يعلمون الناس في الم وقسوة ولكن هذا العلم وحده هو الذي يبقى ثابتا راسخا) وايضا فقد صدق القائل: (من لم يصبر على ذل التعلم ساعة يبقى في ذل الجهل ابد الدهر).