عقوق الناس الأعزاء
بقلم: داليا الحديدي | كاتبة مصرية
يحكي أن مدرسة أرادت اختبار تلميذ، فوضعت في حقيبته ثلاث تفاحات، ثم سألته عن عددهن فأجاب: أربعة. فطلبت منه التركيز ومعاودة الرد، فأجاب بالرقم نفسه، فكررت السؤال مراراً وهو مصمم على أربعة. فجاءت بثلاث برتقالات وطلبت منه وضعهن في حقيبته ثم سألته عن عددهن فأجاب ثلاثة، فأعادت المسألة بالتفاح فقال أربعة، فثارت غيظا؟
فأجابها: كان معي تفاحة في حقيبتي وضعتها لي أمي في الصباح و هي تحضر لي الفطور، وحينما أضفتِ لي الثلاث تفاحات، صرن أربعة.
والمغزى أنه من الصعب إصدار أحكام صائبة حال عدم إلمامنا بخفايا الأوضاع.
والأمر ذاته ينطبق حينما يجلد المجتمع الأبناء بسوط على رقابهم ورميهم بالعقوق دون معرفة خبايا ظروفهم وذرائعهم مع ذويهم.
فالاعتقاد بقدسية الأباء -دون استثناء- استناداً للمقدس، يجانبه الصواب كما يخالف العدل والمنطق والدين، كونه يساء استغلاله من عقول تنصيصية اختزلت المقدس لخدمة أغراضها ونست قولة عمر حينما شكا له أب من عقوق ابنه، فتقصى عمر عن أحوال الابن. ثم وبخ والده قائلا: “لقد عققت ابنك .قبل أن يعقك”.
وأبدًا لن أمل القول إن عتبات المساجد ودور الأيتام وقارعة الطرقات بل وحاويات القمامة شاهدة على الآلاف من حالات إلقاء الأباء لأبنائهم، صغارهم وأجنتهم بحاويات المهملات وأن عقوق الأباء والناس الأعزاء للأبناء ليس حكرا على أبناء السفاح، فالتغرير بمصالح أبناء الحلال لإتمام زيجات مربحة ولو كان العريس مسناً أو سيتزوج لتوقيت محدد بإطار صفقة مقابل أجرة. أليس هذا بكافٍ لوجود حالات عقوق أباء للأبناء؟!
كذلك، فإن التقوت بشرف الأبناء متفشٍ في مجتمعاتنا سواء بين العائلات الفقيرة التي تبيع بناتها للأثرياء، أو بين الأغنياء الذين يعقدون الصفقات مقابل شراكة أو تعضيد ملكيات أو توسيع رقعة أرض أو خشية انتقال الإرث لغير ذوي العصب.
إن عقوق الآباء والأمهات لأبنائهم قضية مسكوت عنها رغم تفشيها فكم من أسر مات الوالد فأخذت الأم بناتها من أيديهن وأجبرتهن على توقيع توكيلات شاملة للأخ الأكبر، وكم من أب ضغط على وليده لإجباره على دراسة الطب عوضاً عن حلم ابنه في العمل بالهندسة، ليضمن انتقال عياداته لأبنائه، أو مهندس منع ابنه من حلم الطب ليخلفه في شركته وإلا إعلان العقوق والتجريس والإقصاء. وكم من عم جرس أولاد أخيه المتوفي رغبة في تقليب العائلة ضده لمجرد أنه لم ينصع لتوريطه في معاداة أشخاص بعينهم.
وكم من أم سلطت أحد أبنائها في البيت ومكنته وجعلته الحاكم بأمره ومررت إهاناته لسائر أخوته وغضت الطرف عنها تمامًا وكأن لم تكن، فتفاقمت مشاعر الظلم لدى أبنائها حتى تملكتهم مشاعر الخوف والحذر من معاودة المهانة، فهجروا البيت وهو ملجأهم الوحيد هرباً من سوء المعاملة والتجبر والتسلط، ثم راحت تشكو عقوق أبنائها وعدم زيارتهم لها.و صارت أستاذ كرسي في تمثيل دور الأم المنكسرة.
وكم من والدين أفشوا أسرار أبنائهم وجعلوهم أحاديث وعلى فكرة، جوز أختك جاله سرطان بس مخبيين، و أخوكِ انفصل عن مراته لكن محلفيني ما أقولش، وابن خالتك نزل من السفر بس فاصل شحن وموصيني ما حدا يعرف “، ثم:” دي أخرتها يا ولاد، تخبوا عني أخباركم.. عامليني غريبة. طب مش كفاية تضحياتي لكم”.
عقوق الآباء الأعزاء موجود لكن مسكوت عنه ويعامل كاللمم، حينما يتهاونون في التضليل بالمشورة في زيجة غير متكافئة فقط لإزاحة المسؤوليات من على كاهلهم، أو للضغط على الأبناء لاستمرار تجرع المعاناة مع شريك ظالم بحجة “كله علشان خاطر مصلحة شوشو”. رغم إن هذا الموقف المتخاذل يرجع لخشيتهم في مساعدة الضحية و تحمل الأعباء معه.
عقوق الناس الأعزاء متفشٍ في صعيد مصر – إلا من رحم الله- كالذي تحُرم فيه البنات من ميراثهن ولا يجرؤ ابن على المطالبة بحقه في مصاغ والدته وإلا التجريس و ربما التبرأ منه حتى لو كانت البنت في أمس الحاجة لميراثها أو حتى لو اضطر الابن للاقتراض من الأغراب .
عقوق الآباء للأبناء منتشر لا سيما في حالات سفاح ذوي القربي حينما تتكتم الأم على جريمة مغتصب صغيرتها،كون المغتصب من أقربائها كي لا تفضحه أمام زوجها وكي لا تُتهم بالتخاذل في رعاية أبنائها، ولتحافظ على الصورة التي رسمتها أمام زوجها أن أسرتها أفضل من أسرته.. ولو ضحت بحقوق ونفسية أكبادها؛ بل قد تهادن المغتضب وتقترض من أمواله و تستفيد منه وتتستر على جرائمه وشنائعه كما قد توكله رسميا بأوراق رسمية تخول له الحق في التصرف في أملالكها و تكبره وتتزاور معه و ترحب به وتطبع معه وتجعل ابنتها المغتصبة تناديه بـ” انكل” ثم تتشدق بالعقوق والحقوق!
عقوق الأباء للأبناء متفشٍ لاسيما حين يلمس الأبناء من ذويهم حرصاً في مجاملة الأغراب ومحاباتهم على حسابهم، فيكون حالهم مع أولادهم كمن قلبه مع (علي) بينما سيفه مع (يزيد)؛ فالهدايا والمعاملة الأفضل للأغراب، أما أبناء الرحم فيسفهون ويهمشون ويمنحون الحب بالقطارة تماماً كالزواج العرفي الذي يمنح فيه الزوج محبته لزوجته في السر، أما في العلن، فلست مني ولست منك، فيعاني الأبناء من انعدام الثقة في النفس ومن مشاعر الهوان والصغار.
عقوق الأباء للأبناء يحدث حينما يلمس الابن من أباه مطالبه ببره، رغم أنه رأى والده يجحد جده ويظلمه ويصغره ويستقبل سواه استقبال الملوك إلا الجد يستقبل بازدراء ويعامل بتهميش و بهوان!
عصارة القول: إن التكسب من السند الديني بتقديس الأباء حق استخدامه باطل، وحبذا لو أعلن أن له استثناء في حالة عقوق الأهل لأولادهم.
وتبقى المشكلة في صعوبة اعتراف الابن بعقوق أهله له، فهو أشبه بالرجل الذي خانته زوجته، فإن أفصح عن جرمها نالت سمعته من درن فحشها.