غبار المقبرة
مصطفى العارف | العراق
وصلت طائرتنا إلى مطار النجف الدولي بعد مشقة السفر, ركبنا سيارة أجرة معي زوجتي جوليا, وأطفالي سام، وفيفيان، وكاتي توجهت بنا السيارة إلى المقبرة، وسائقها الشاب ينظر الينا بتعجب نظرات غريبة-: فاجئني بالسؤال من أي بلد انتم؟ -: نحن من العراق. تركت العراق قبل أكثر من ثلاثين عاما.. كنت أتأمل بهدوء.
مدينة النجف الأشرف، أخذ السائق يوجه لي الأسئلة، تجاهلته بفطرتي، تذكرت عندما تم اتهامي بتوزيع منشورات ضد السلطة الحاكمة آنذاك، تم إلقاء القبض علي في قاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة المستنصرية من قبل رجال الأمن مباشرة وأنا أحمل شهادة الدكتورة من جامعة كامبريدج, وجهت لي الإهانة والسب والشتم ولا أعرف ما السبب، تم سجني وتعذيبي في الشعبة الخامسة، ونقلي إلى سجن نقرة السمان إذ تم تهريبي للحدود السعودية، مع مجموعة من السجناء السياسيين وخرجت من العراق ولم أعلم بمصير أهلي وأقربائي-: كرر السائق السؤال أستاذ أنتظركم وصلنا المقبرة، انتبهت لكلامه -: قلت له نعم دخلنا المقبرة أجواء، هادئة، قبور موغلة بالقدم، تحمل أجساد أحبابنا الذين فارقونا، قبور قديمة، وأخرى جديدة، صور لشهداء, وأطفال ونساء. الصمت يسود المكان، هبوب رياح متقطعة, أصوات تبث الأنين ,شعرنا بالخوف والوجل , والريبة.
هناك مجموعة من النساء تبكي, وتندب مواتها بلهجة شعبية معبرة عن الحزن الدفين تتوسطهن امرأة شابة تحمل معها مكبر صــــوت وتقرأ إشعارا حزينة بصوت جهوري واضح، يحرك المشاعر الدفينة فتخشع القلوب,وتزل الدموع تحتضن الأرض الحارة من شدة أشعة الشمس الاهبة، وعلى الجهة اليسرى تجرى مراسيم دفن شهيد من الشهداء المظلومين الذي قضى نحبه غدرا, وأمه تضع التراب على وجهها وأطفاله يصرخون بصوت عال.
-: سألتني جوليا عزيزي هل هذه منطقة أثرية , فيها معالم قديمة جدا, وهي تخلو من المارة إلا من بعض الأشخاص الذين يبحثون عن موتاهم هنا وهناك.
-: أجبتها هذه أقدم مقبرة في العالم تضم أجساد الأنبياء والخلفاء والأولياء الصالحين
-: قالت فيفيان ولماذا كل هذه القبور هنا بالذات ؟-: هذه الأرض مقدسة فيها قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. بعد سقوط الصنم عثر في الشعبة الخامسة على ملف وورد فيه معلومات عني ومن ضمنها كتابة احد الزملاء المخلصين للوطن تهمة كيدية ضدي دفعت ثمنها أنا وعائلتي وعمري الذي أفنيته بالخارج من اجل تدمير مستقبلي.
جاءت امرأة كبيرة السن تجاوز عمرها السبعين عاما ,ومعها فتاة صغيرة تمسكها بقوة ترتدي الزي العربي الأصيل تلبس فوطة من البرسيم الأسود, وتشد وسطها بحزام كبير من القماش الأخضر جلست على احد القبور تبكي, وقد ظهر عليها آثأر التعب, والحزن العميق ,هزني الموقف اقتربت منها بيدها الوشم الأخضر القديم, وعلى رقبة المرأة الجنوبية التي كانت ترسمه رسما على جسدها.
-: سألتها هل لديك نقطة دالة حتى نصل إلى قبر ابنك بسرعة ؟ قالت نعم , اسمه عباس علي مات حرقا قبل أيام في مستشفى العزل. وقعت عيني على هذا الاسم وجدته على القبر الذي تجلس عليه المرأة مباشرة منقوش على القبر الشهيد (عباس علي /تموز 2021 ) المأسوف على شبابه، مات حرقا وخنقا.
ومن الجهة اليمنى للمقبرة التي تبعد عنا عدة أمتار سمعت صوت بكاء, ونحيب لامرأة شابة تحمل طفلا رضيعا تلسعه أشعة الشمس الحارقة، وضعت طفلها على القبر, وأخذت ترمي بالتراب على جبهتها التي أصبحت سمراء, ويجلس على مقربة منها رجل كبير منحي الظهر ومقوس القدمين يتكاء على عكاز طبي يبكي بصمت, تنهمر دموعه انهمارا ,ينظر إلى قبرين جميلين جديدين مكتوب على قطعة بيضاء من المرمر قبر الشابة الصيدلانية (أزهار محمد ), وثانيهما مكتوب عليه قبر الدكتور (محمد الجبوري تموز/ 2021) المأسوف على شبابهما و الذين استشهدا في انفجار سيارة مفخخة في سوق الوحيلات عشية العيد. تجمع أطفالي حولي وزوجتي جوليا تخفف عني الحزن، وتترجم لهم المعاناة التي تحملها الأبرياء في بلدهم العزيز.
وصلنا نهاية الشارع كانت صورة جميلة لوالدي وهو ينظر إلي بنظرة عاتبة انهمرت دموعي واحتضنت القبر بكيت دما على فراقه ,وبقربه قبر جميل وأنيق من المرمر لوالدتي كتب عليه فارقا الحياة حزنا على ابنهما المظلوم عام 2013.
سالت دموعي, ونزف قلبي دما على أهلي, وعلى جميع الأبرياء المظلومين.