عرائش البنفسج
هند خضر | سوريا
بين شروق الشمس وغروبها حكاية امتزجت مع دمي ،زحفت على سطح مفاصلي واتكأت على جدار روحي كي تستأصل الوجع الذي استعصى على العلاج والذي تمكن من جلدي لتنثر عطر الحب فوقه فيتسرب من مساماتي ويسري في عروقي كما تسري فيها أنت ..
(خريف بعدكِ، شتاء حزنكِ، ربيع زهركِ وصيف إطلالتكِ كل الفصول اجتمعت بك) أليست هذه العبارة التي قلتها لي ذات مساء حالم لتقلب حياتي رأساً على عقب وتوقعني في غرامك ..
التوقيت عندما دقت أجراس العمر لتخبر شمس القلب بموعد الغروب أتى حبك على غفلة فأشرقت شمسي من جديد ..
الحب مجدداً يا نفسي؟
وما العجب في ذلك مادمت أملك فؤاداً لم تستقم نبضاته بعد؟ !
هذا ما قلته لنفسي عندما عثرت عليك ..
عندما يطرق العشق بابك لا شك أنك ستفتح له باللاشعور، ستقابله بلهفة المحروم ونشوة المشتاق، ستشعر به أنه الدواء لكل داء والغذاء لمعدتك الخاوية وستتنفس من خلاله فتصبح أنفاسك مزيجاً من عبقه ورائحة زهر الليمون …
منذ لحظة إعلان الحب الكونية حلمتُ بأننا سنلتقي في مدينة العشاق على رصيف الهيام ..
ذات نهار التقينا في مكان هادئ ودافئ للغاية، وقفنا تحت عرائش البنفسج ذات الأطياف الحالمة، تدلّت فوق رؤوسنا ،فاح أريجها حولنا، ابتسمتَ لي للوهلة الأولى، سافرتُ مع ابتسامتك إلى عالم آخر ينفصل تماماً عن عالمنا،مليء بالود ومعجون بالوجد. قلتُ لك: منذ زمن كنت قد وقّعتُ عقداً مع ذاتي بأنني لن أقع في حب أيّ رجل في الدنيا، ولكنك قلبت الموازين وجعلتني أكسر القاعدة فقد عصفتَ بأحاسيسي ووجداني، بالله عليك أخبرني من أنت وكيف أتيت إليّ؟
أجابني: أنا من انتظرتيه طويلاً على حدود أيامكِ، سمعت بنداء روحكِ وهي تستغيث من عمق الألم، أتيتكِ كي أعيد الحياة إلى ملامحكِ الطفولية، والفرح إلى عينيكِ اللتين سكنهما حزن الكون بأسره، جئتكِ لأن تفاصيلكِ صُممت على مقاسي فأنتِ أنثى لا تتكرر ويليق بها حبي ..
لا أنكر أنني في لحظتها اعترت يداي رجفة لذيذة ،تلعثم الكلام على شفاهي قليلاً وأُصبت بالإرباك فأنا لأول مرة أقف أمامه وجهاً لوجه،استعدتُ بعضاً من قوتي ونظرتُ إلى عينيه اللوزيتين قائلةً: رغم أننا لم نكن على موعد فقد شاءت الأقدار وكتبت لنا اللقاء، لطالما رغبت في رحلة بحثي الدائمة قبل أن يطوّق اليأس خلايا دماغي أن أحظى بمقابلة أحد ما يستطيع أن يخترق روحي ويصل إلى آخر نقطة فيها، يجمع أجزائي المشتتة ،يلملم قطع المرايا التي تحولت إلى شظايا في داخلي ويعيد تشكيلها ثانيةً، أنت على معرفة بأنك الوحيد القادر على إعادة الدفء لأطرافي المتجمدة من صقيع الوحدة ،وصولك أشبه بمعجزة أصلحتْ ما أفسده الوقت في كوني وتكويناتي ..
ساد الصمت لدقائق معدودة وعبر إلى عينيّ بنظرة عميقة أوصلت لي أحاديثاً عن الهوى والجوى، فكما نعرف في العين لسان صادق يتكلم، قاطع لحظة السكوت قائلاً: كلماتكِ طعامي، أنفاسكِ شرابي، أنتِ المدينة التي احتوت غربتي، ومرفأ الأمان الذي أحتاجه لكي ترسو عليه سفن همومي وقوارب أتراحي، أحببتكِ حدّ الوله، أشتاقكِ حدّ الهذيان، دعيني اليوم أتأملكِ، أسرح بكِ، أحكي لكِ عن جمالكِ الخرافي ،كل ذرة من أنوثتكِ الطاغية سلبتني عقلي، وأما عن نظراتكِ كم تبدو ساحرة عندما يقع نظركِ عليّ!
وحين تبسمين يورق الحب في جسدي، يزهر اللوز في مهجتي، في رئتي عاشقٌ من ألف دهرٍ فاسألي ڤينوس عني، أدمن الجرح المدمى بالضياع والتمني فقد غدوت شهيد غرامكِ ياحبيبتي فاطمئني ،فأنتِ زنبقتي وفاتنتي وكل شيء فيكِ يجذبني نحوكِ فكيف السبيل إلى وصالكِ؟
أعود بذاكرتي قليلاً إلى ذاك اليوم الذي طُبِع في مخيلتي، أتذكر عمّ سألني حينها ألا وهو الوصال فتسقط لؤلؤة من عيني على خدي الشبيه بحمرة التفاح لتذكرني بما أجبته:
تقطعت أوصالي منذ وجدتك، فأنت الحب الذي أتاني بلا موعد مسبق، أتيت لتنهي ثورة البؤس في أعماقي، وتنتزع ذكرى الخريف من بين ضلوعي، أتيت من زمان لايشبه زماننا، قادتك خطاك إلى عالمي لتفرش دروبي نرجساً وياسميناً، قدّمت لي قلبك وهو بمثابة هدية من زماني كما أنها لا تُقدّر بثمن، فعلت كل ما بوسعك كي لا ترى دموعي، ولكن الذنب ليس ذنبك، فنحن افترقنا منذ التقينا فحبنا خارج خارطة الأيام مهما بلغ ذروته سيعود كلّ منا إلى مكانه ،سنلملم ماتبقى من ذكرياتنا لنستمد منها القدرة على العيش لأن حكايتنا محكومة بالإعدام منذ الولادة ..
صحيح أنني اليوم أبوح للورق وأسرد تفاصيل حكاية لا يعرفها سوانا ولكنني لن أتمكن من إيصال ذاك الإحساس الذي اعتراه عندما أنهيت كلامي بأن قصتنا أسطورية بلغت حد القداسة ولكنها سرعان ما ارتطمت بجدار الواقع.
نظر إليّ كما لو أنه ينظر للمرة الأخيرة وقال: أريدكِ أن تعرفي أنني أملك في داخلي قوة غير طبيعية ما من أنثى قادرة على كسرها سواكِ، تتحكمين بقوتي وقواي، تعزفين على أوتاري ألحاناً فريدة مثلكِ ،ترقصين في مدخل شرياني كما أحب وأهوى، تتبخترين بمشيتكِ على رصيف نعاسي فأصحو من خدرٍ كاد أن يُدخلني في مرحلة الغيبوبة، تغوصين في أعماقي ولا تطلبين النجاة، ترسمين على حدود جسدي بأصابعكِ صورتكِ فأصطحبها معي في كل رحلاتي وأصبح فارغاً من كل شيء إلا منها وتكونين ملهمتي التي تبثّ الحياة في كلماتي، أعرف أنكِ العادة التي لا أود تغييرهاوأنكِ شعلة الحب التي لا أرغب أن تخبو وأنكِ ملجأ ذاتي وحضنكِ منزلي الأبديّ رغم يقيني بأنكِ لستِ لي ولن تكوني …
على إيقاع حزين أنهى كلماته ولم تنتهِ من أفئدتنا قصة عشق ممنوعة على الاستمرارية وعصية على النسيان.